تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والنقاد المتقدمون يستعملون أحياناً لفظة صدوق بمعنى لفظة ثقة، وإنما يعدل أحدهم عن ثقة إلى صدوق لأن قرينة في السؤال أو في تصرف السائل أو في المجلس تقتضي منه ذلك العدول لأن كلمة ثقة حينئذ معناها الثقة الثبت الحجة الحافظ، وهو قد سئل عمن هو ثقة غير مؤكد التوثيق فلا بد له حينئذ من استعمال كلمة صدوق أو ما يقوم مقامها؛ وبهذا يتبين ان جعل هذا المعنى الطارئ لكلمة صدوق معنى لازماً لها عند ذلك الإمام الذي استعملها لا يصح إلا باستقراء كاف أو نص عليه من ذلك الإمام نفسه أو ممن نظن أنه عنه أخذه أي تلامذته أو نص من كبار النقاد القدماء الذين هم عارفون به معرفة كافية راسخة.

فهذه ثلاثة احتمالات أحدها ضعيف كما تقدم والآخران لا يستقيم تعيين أحدهما دون الآخر إلا بدليل يقبل، وسيأتي النظر فيهما.

الرابع: أن معنى لفظة (صدوق) عند ابن مهدي كمعناها عند الجمهور، ولكن معنى عبارة (كان صدوقاً وكان مأموناً) عنده أعلى من معنى لفظة (صدوق) وحدها، وإن كان أقل من معنى إطلاق التوثيق، وذلك ما يستحقه أبو خلدة في نقد ابن مهدي.

وأرى أن أقوى وأصح هذه الاحتمالات هو ثالثها، بل هو الذي لا يصح غيره؛ فإن قيل: ما الذي دفعه إلى تلك المقارنة؟ قلت: بعض أو نحو ما تقدمت الإشارة إليه من القرائن الواقعة في المجلس أو في سؤال السائل أو نحوهما من الأمور التي اضطرته إلى هذا التصرف، كأن يكون سئل عن واحد أو أكثر من الثقات الحفاظ المتقنين فأجاب بكلمة ثقة ثم سئل عن أبي خلدة: أثقة هو؟ فكان لا بد له من مثل هذا التصرف.

وقال العلامة المعلمي في (التنكيل) (ص261 - 262): «وأصل القصة أن ابن مهدي كان يحدث فقال: حدثنا أبو خلدة، فقال له رجل: كان ثقة؟ فأجاب ابن مهدي بما مر، فيظهر لي أن السائل فخم كلمة ثقة ورفع يده وشدها بحيث فهم ابن مهدي أنه يريد أعلى الدرجات، فأجابه بحسب ذلك؛ فقوله (الثقة شعبة وسفيان) أراد به الثقة الكامل الذي هو أعلى الدرجات؛ وذلك لا ينفي ان يقال فيمن دون شعبة وسفيان: (ثقة) على المعنى المعروف. وهذا بحمد الله ظاهر وان لم ار من نبه عليه؛ وقريب منه أن المروذي قال: قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ قال: ما تقول؟! إنما الثقة يحيى القطان. وقد وثق احمد مئات من الرواة يعلم انهم دون يحيى القطان بكثير».

والحاصل انه لا يسوغ القطع - ولا الظن الراجح الكافي للعمل به - بأن معنى كلمة صدوق عند عبد الرحمن بن مهدي هو التوثيق التام، ومن ادعى ذلك فليس بمصيب.

ومن أطلق من النقاد في مرة من عمره كلمة وظهر أنه أراد بها في تلك المرة غير عادته وغير ما يريده بها جمهور المحدثين فلا يتجه أن يفسر اصطلاحه في تلك الكلمة بمقتضى تلك المرة الواحدة، ولا سيما إذا اتجه تفسير تلك الكلمة في ذلك الموضع الوحيد تفسيراً خاصاً بذلك الموضع، مقصوراً عليه، صحيحاً بالنسبة له، مؤيداً بالقرائن المحيطة به، قريباً من معناها الغالب عليها، فهذا كما لا يخفى أولى بكثير من ادعاء اصطلاح شاذ لبعض كبار العلماء (4) من أجل الحفاظ على معنى واحد لبعض كلماته وطرد ذلك المعنى – ولو كان شاذاً - في جميع مواضع استعماله لتلك الكلمة بلا استثناء، قال المعلمي في مقدمته لـ (الفوائد المجموعة) (ص9): «صيغ الجرح والتعديل كثيرا ما تطلق على معان مغايرة لمعانيها المقررة في كتب المصطلح، ومعرفة ذلك تتوقف على طول الممارسة واستقصاء النظر».

وقال الباجي في (التعديل والتجريح) (1/ 283 - 288): «اعلم انه قد يقول المعدل: (فلان ثقة) ولا يريد به انه ممن يحتج بحديثه، ويقول: (فلان لا بأس به) ويريد أنه يحتج بحديثه؛ وإنما ذلك على حسب ما هو [أي الناقد] فيه، ووجه السؤال له؛ فقد يسأل عن الرجل الفاضل في دينه المتوسط في حديثه فيقرن بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد انه ليس من نمط من قرن به، وأنه ثقة بالإضافة إلى غيره، وقد يسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة؟ قال: الثقة غير هذا».

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير