ثم أطال الباجي في التمثيل لتلك المعاني والاستدلال لها إلى أن قال: «فهذا كله يدل على ان ألفاظهم في ذلك تصدر على حسب السؤال، وتختلف بحسب ذلك، وتكون بحسب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض»؛ ثم قال: «وقد يحكم بالجرحة على الرجل بمعنى (5) لو وجد في غيره لم يجرح به، لما شهر من فضله وعلمه، وأن حاله يحتمل مثل ذلك».
وقال في ختام مبحثه هذا: «فعلى هذا يحمل ألفاظ الجرح والتعديل من فهم أقوالهم وأغراضهم، ولا يكون ذلك إلا لمن كان من أهل الصناعة والعلم بهذا الشأن؛ وأما من لم يعلم ذلك وليس عنده من أحوال المحدثين إلا ما يأخذه من ألفاظ أهل الجرح والتعديل، فإنه لا يمكنه تنزيل الألفاظ هذا التنزيل ولا اعتبارها بشيء مما ذكرنا، وإنما يتبع في ذلك ظاهر ألفاظهم فيما وقع الاتفاق عليه، ويقف عند اختلافهم واختلاف عباراتهم».
ومما مثل به الباجي لكلامه الأول جواب ابن مهدي في أبي خلدة؛ وقد تقدم ذكره.
وأخيراً فمن المهم الذي لا بد هنا من ذكره أن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم قد فهم وصرح أن عبد الرحمن بن مهدي كان يفرق بين كلمة ثقة وكلمة صدوق فقال في (الجرح والتعديل) (2/ 37): «حدثني أبي [حدثـ]ـنا عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني الزهري قال سمعت عبد الرحمن بن مهدى وقيل له أبو خلدة ثقة؟ فقال: كان صدوقاً وكان مأموناً، الثقة سفيان وشعبة. قال أبو محمد: فقد أخبر أن الناقلة للآثار والمقبولين على منازل وأن أهل المنزلة الأعلى الثقات وأن أهل المنزلة الثانية أهل الصدق والأمانة».
بل ذهب السخاوي من المتأخرين إلى أن صدوق عند ابن مهدي تساوي عنده صالح الحديث وهو الرجل الذي يكون في حديثه ضعف إلا أنه صدوق في نفسه؛ فقد قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 37): «[حدثـ]ـنا احمد بن سنان الواسطي قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي وربما جرى ذكر رجل صدوق، في حديثه ضعف؛ فيقول: رجل صالح، الحديث يغلبه يعنى أن شهوة الحديث تغلبه».
قلت: ظاهر هذا الكلام أن عبد الرحمن بن مهدي كان من طريقته أحياناً إذا أراد أن يبين حال بعض الرواة في الحديث ممن هم عدول ولكنهم لينون أي من أصحاب الحفظ السيء فإنه يشير إلى حالهم في العدالة والدين بنحو كلمة صالح ثم يشير إلى حاله في الرواية بمثل هذه الكلمة (الحديث يغلبه) أي أنه لا يصبر عن التحديث مع أنه كان ينبغي له أن لا يحدث لأنه غير ضابط لأحاديثه.
ولكن ابن الصلاح لم ينقل من كلمة أحمد بن سنان هذه أواخرها فصار آخر العبارة هكذا: (فيقول رجل صالح الحديث)؛ فجاء السخاوي فبنى على هذا أن كلمة صالح الحديث عند ابن مهدي بمعنى كلمة (صدوق) عنده، فقال في فتح المغيث (1/ 339) بعد العبارة التي نقلها ابن الصلاح: «وهذا يقتضي أنها [يعني: صالح الحديث] هي والوصف بصدوق عند ابن مهدي سواء».
قلت: وهذه الدعوى نقيض دعوى من قال أن كلمة (صدوق) عند ابن مهدي تعني عنده التوثيق التام.
ومن الغريب أن المتأخرين يكثر منهم أن يستندوا على كلمة محتملة أو تفسير ارتآه بعض العلماء لبعض عبارات الأئمة فيجعلون ذلك أصلاً في مقصد ذلك الإمام وفي شرح اصطلاحاته ولو كان في ذلك شذوذ بين ومخالفة ظاهرة لطريقة الجمهور أو مقتضى اللغة وأساليب الكلام، وذلك صنيع غير جيد ولا مقبول.
أأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأ أأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأ
الهوامش:
(1) وسيأتي الكلام على هذه المسائل.
(2) وانظر ترجمة ابراهيم بن الحارث بن اسماعيل في (التحرير) (1/ 84).
(3) إذا كان مجمعاً على توثيقه فكيف يكون دون الأثبات؟!
(4) وهل أخذ جمهور المحدثين مصطلحاتهم إلا عن الكبار من متقدمي أئمة الحديث كشعبة وسفيان ومالك وتلميذَيهم عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد.
(5) أي بسبب.
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
يليه قريباً بإذن الله القسم الثاني من المبحث
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[30 - 11 - 05, 08:48 م]ـ
11 - لم يوفقا في شرح معنى (لا بأس به) و (ليس به بأس) عند ابن معين؛ وإليك بيان ذلك وتحقيقه:
لقد قالا (1/ 41): «وقوله [يريدان ابن معين] في الراوي: (لا بأس به) أو (ليس به بأس) فهو ثقة عنده».
وقالا (2/ 68): «إن لا بأس به من رسم ابن معين في الثقات».
وقالا (2/ 191) ان (ليس به بأس) عبارة توثيقية عند ابن معين.
أقول: هذا الإطلاق ينبغي أن يعاد النظر فيه.
¥