الأول: أنه موافق للأصل المشهور في معنى هذه اللفظة في استعمالات المحدثين عامة ومنهم بل من كبار أئمتهم ابن معين؛ وذلك بخلاف القول الأول إذ يظهر أنه انفرد بنقله عن ابن معين أحمد بن أبي خيثمة؛ ولو كان هذا المعنى معروفاً من طريقة ابن معين وشائعاً في منهجه في النقد لاشتهر عنه عند تلامذته وهم عشرات من الحفاظ النقاد وهم الذين جمعوا علمه ونشروه، ولاشتهر كذلك عند تلامذتهم وهم أكثر منهم، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن!!
لا أريد بهذا طعناً في نقل ابن أبي خيثمة، ولكن أريد التنبيه إلى ضرورة تدبر معنى ومقتضى ما نقله عن الإمام العَلم ابن معين، فإنه من العبارات النادرة والأجوبة الخاصة التي لا تبنى عليها القواعد.
الثاني: أن ابن معين ليس عالما خاملاً مغموراً لتخفى مصطلحاته ومعانيها ولكنه كما وصفه ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (1/ 488): (الإمام المطلق في الجرح والتعديل، وإلى قوله في ذلك يرجع الناس، وعلى كلامه فيه يعولون)؛ قلت: ومنه ومن شيوخه وأقرانه وتلامذتهم أخذ الناس المصطلحات واستعاروا القواعد.
ولو كان لابن معين اصطلاحٌ يختص به في هذه اللفظة فإنه يستبعد حينئذ ألا يقلده فيه أو يتابعه عليه واحد أو أكثر من تلامذته؛ وكذلك يستغرب ألا ينبه عليه مثل ابن أبي حاتم في مقدمة أو صلب كتابه (الجرح والتعديل)؛ بل هو نسب في المقدمة معاني ما شرحه من ألفاظ المحدثين لجملتهم، ولم يستثن من ذلك ابنَ معين؛ قال ابن أبي حاتم في (المقدمة) (1/ 1/37): (ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى:
وإذا قيل للواحد انه ثقة أو متقن ثبت فهو ممن يحتج بحديثه.
وإذا قيل له انه صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية.
وإذا قيل: (شيخ) فهو بالمنزلة الثالثة يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية----).
الثالث: دلالة الاستقراء على ذلك، فإني طالعت أو استقرأت طائفة من الكتب لمعرفة حقيقة هذا الادعاء ومنها بعض مجلدات (تهذيب التهذيب) ودرست أقوال ابن معين في تلك الكتب وقارنتها بأقوال العلماء فازددت يقيناً باختلاف معنى الكلمتين عند ابن معين.
الرابع: أنه قد ورد في أجوبة أخرى لابن معين ما يدل على تفريقه بينهما، أي بين لفظتي (ثقة) و (لا بأس به)؛ وهذه أمثلة من ذلك:
1 - قال عبد الله بن أحمد في (العلل) (2/ 115): (سألت يحيى، قلت: التيمي عن الحضرمي؟ فقال: شيخ روى عنه معتمر عن أبيه عن الحضرمي، قلت [لِ] يحيى: ثقة؟ قال: ليس به بأس).
فانظر كيف عدل ابن معين عن الإجابة بالإيجاب، كقوله نعم أو نحوها، إلى قوله (ليس به بأس)؛ أكان ليفعل ذلك بلا مقصد؟!
2 - قال عثمان بن سعيد الدارمي في (تأريخه عن يحيى بن معين) (ص173): (وسألته عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه كيف حديثهما؟ فقال: ليس به بأس. قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ فقال: سعيد أوثق والعلاء ضعيف).
3 - قال الدارمي في هذا (التاريخ) أيضاً (رقم 334): (وسألته عن الربيع بن صبيح؟ فقال: ليس به بأس، وكأنه لم يُطْرِه!!! فقلت: هو أحب إليك أو المبارك؟ فقال: ما أقربهما، قال أبو سعيد [الدارمي]: المبارك عندي فوقه فيما سمعه من الحسن، إلا أنه ربما دلس).
أقول: المبارك ـ وهو ابن فضالة ـ ضعيف يعتبر به ويدلس الإسناد ونسب إلى تدليس التسوية.
4 - وقال فيه أيضاً (ص92): (سألته عن مندل بن علي؟ فقال: ليس به بأس، قلت: وأخوه حبان بن علي؟ فقال: صدوق، قلت: أيهما أحب إليك؟ فقال: كلاهما وتمراً ((4))، كأنه يضعفهما).
فانظر إلى قول ابن معين هذه الكلمة المفهِمة للتضعيف فيمن قال فيه أولاً (ليس به بأس)، وانظر تفسير عثمان بن سعيد وهو من أعرف الناس باصطلاحات ابن معين لقوله (كلاهما وتمراً) مع عدم إيراده شيئاً يشير به إلى شيء من تناقض بين كلمتي ابن معين في مندل بن علي! ومن المعلوم البين أنه يبعد جداً أن يسأل ابن معين عن راو فيوثقه توثيقاً تاماً ثم يعود ابن معبن نفسه فيلحق بذلك التوثيق التام ما يناقضه، فيذكر فيه ما يدل على ضعف ذلك الثقة!. وفي هذا دليل على نزول رتبة لفظة (لا بأس به) عند ابن معين عن رتبة لفظة (ثقة) عنده.
¥