تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الخامس: مما يريب في هذا التساوي المدّعَى أن ابن معين إن لم يكن اكثر النقاد المجتهدين كلاماً في الرواة فهو بلا ريب من أكثرهم في ذلك، ومعلوم أن نسبة رواة الحديث الحسن بين مجموع الرواة عامة نسبة كبيرة عالية، وقد علمت بالاستقراء أن ابن معين قلما يستعمل في وصف هؤلاء أصحاب هذه المرتبة ما عدا كلمة (لا بأس به) من مصطلحاتها الأخرى المعروفة المستعملة عند سائر النقاد، مثل كلمة (صدوق) و (حسن الحديث) ونحوهما؛ فإذا قبلنا أن يكون معنى كلمة (لا بأس به) عند ابن معين التوثيق المطلق فمعنى ذلك أنه يقولها في رواة الأحاديث الصحيحة لا الحسنة، فإنه يلزم حينئذ من ذلك أن رواة الأحاديث الحسنة عند ابن معين نسبة نادرة الوجود أو أنه متساهل جداً في إطلاق التوثيق، أو أنه كان لا يفرق بين الصحيح والحسن، وكل واحد من هذه اللوازم الثلاثة فيه نظر، بل لا يصح، فلا يصح ما استلزمه.

السادس: كان ابن معين يقرن أحياناً بين كلمة (ليس به بأس) وكلمة (يكتب حديثه) وظاهر أنه لا يحسن من أحد أن يقرن بين لفظتي (ثقة) و (يكتب حديثه) إلا إذا أراد بكلمة (ثقة) العدالة مجردة، وهذا نادر وهو خلاف الأصل؛ روى ابن عدي في (الكامل) (1/ 243) عن أحمد بن سعد بن أبي مريم قال: (سمعت يحيى بن معين يقول: إبراهيم بن هارون ليس به بأس يكتب حديثه)؛ ثم قال ابن عدي: (وقول يحيى بن معين (يكتب حديثه) معناه أنه من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، ولم أر لإبراهيم بن هارون هذا عندي إلا الشيء اليسير فلم أذكره ها هنا) ((5)).

السابع: قد ثبت عندي ان ابن معين كان يتساهل في أحيان كثيرة في إطلاق لفظة ثقة على الراوي الموصوف بأنه (لا بأس به) عند ابن معين نفسه في رواية أو روايات اخرى أو عند الجمهور أو على التحقيق؛ وادعاء ذلك، أي ادعاء ان ابن معين يتسهل في إطلاق كلمة ثقة على الصدوقين رواة الاحاديث الحسنة أي الذين يقال في أحدهم أيضاً – كما هو معلوم –: (لا بأس به) أقرب من ادعاء أن ابن معين يتشدد فيطلق كلمة (لا بأس به) على الثقات رواة الأحاديث الصحيحة؛ وإن كان اجتماع هذين الوصفين في ناقد واحد ممكن وواقع.

بل ادعاء هذين الأمرين معاً، أو أحدهما، في حق ابن معين، أقرب - بلا ريب - من ادعاء أنه لا يفرق في ألفاظه بين لفظتي (ثقة) و (لا بأس به)؛ لما تقدم من الأدلة والقرائن.

هذا الذي انتهى إليه بحثي في هذه القضية، والموضع يحتمل مزيداً من البحث، والله أعلم.

؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛

الهوامش:

(1) ثم قال العراقي: (وفي كلام دحيم ما يوافق كلام ابن معين، فان أبا زرعة الدمشقي قال: قلت لعبد الرحمن بن إبراهيم [هو دحيم]: ما تقول في علي بن حوشب الفزاري؟ قال: لا بأس به؛ قال: قلت: ولِم لا تقول: (ثقة) ولا نعلم إلا خيراً؟ قال: قد قلت لك إنه ثقة).

وقد قال السخاوي في (فتح المغيث) (1/ 367 - 367) بعد أن ذكر أن صنيع المحدثين رفع مرتبة ثقة فوق مرتبة لا بأس به: (ولو لم يكن صنيعهم كذلك ما سأل أبو زرعة، لكن جواب دحيم موافق لابن معين فكأنه اختياره أيضاً).

وأقول: يقال هنا نحو ما يقال في حق ابن معين في هذه القضية، ويزاد على ذلك أن دحيماً قد ثبت تساهله في توثيق الشاميين، وأكثر المتساهلين لا يفرقون في كثير من الأحايين بين راوي الحديث الصحيح وراوي الحديث الحسن، ولا بين الثقة والصدوق، فلعل دحيماً كان كذلك.

(2) وهو أن الوصف بـ (ثقة) أرفع من الوصف بـ (ليس به بأس).

(3) هذا أحد جوابي العلماء لمخالفة عبارة ابن معين لعبارة ابن أبي حاتم في أنه نسب إلى المحدثين من غير أن يستثني منهم أحداً أن كلمة ثقة أعلى في التوثيق من كلمة لا بأس به.

وأما جوابهم الآخر فهو ما ذكره ابن الصلاح وهو جعل كلام ابن أبي حاتم عاماً للأئمة والعلماء وكلام ابن معين خاصاً به، وأن ابن أبي حاتم ذكر العام أو الغالب دون الخاص.

(4) هذه الكلمة مثل عربي ذكر قصته مطولة الميداني في (مجمع الأمثال) (2/ 151 - 152) وحاصله أن أول من قال ذلك عمرو بن حمران الجعدي وكان عمرو هذا قد نشأ مارداً مفوهاً – كأبيه - فلما أدرك جعله أبوه راعياً يرعى له الإبل فبينما هو فيها يوماً إذ رفع إليه رجل قد أضرَّ به العطش والسغوب وعمرو قاعد وبين يديه زبد وتمر وتامك، فدنا منه الرجل فقال: أطعمني من هذا الزبد والتامك! فقال عمرو: نعم، كلاهما وتمراً؛ فأطعم الرجل حتى انتهى وسقاه لبناً حتى روي وأقام عنده أياماً فذهبت كلمته مثلاً. ورفع كلاهما أي لك كلاهما ونصب تمراً على معنى أزيدك تمراً؛ ومن روى كليهما فإنما نصبه على معنى أطعمك كليهما وتمراً. وقال قوم: من رفع حكى أن الرجل قال: أنلني مما بين يديك فقال عمرو: أيما أحب إليك زبد أم سنام فقال الرجل: كلاهما وتمراً، أي مطلوبي كلاهما وأزيد معهما تمراً أو وزدني تمراً.

ويعلم من معنى هذا المثل ومن تفسير عثمان بن سعيد لكلام شيخه ابن معين أن مراده أن مندل وحبان فيهما لين وضعف، وأن حديثهما لا يقنع به الناقد المحقق، كما لا يقنع الجائع الذي اشتد جوعه ببعض ما يجده من الطعام.

(5) وذكره الذهبي عن ابن عدي في ترجمة إبراهيم المذكور من (الميزان) (1/ 33).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير