ثم قال لهم: "إن الأمير كان في قيلولته، فرأى في النوم طيفا يقول له: إن المحامد اشتد بهم الجوع، فبعث بهذه الصرر، وهو يقسم عليكم إذا نفدت أن تبعثوا إليه ليزيدكم ([16]).
ثم رجع بعد ذلك إلى بغداد ومنها إلى مولده طبرستان، وكانت هذه زيارته الأولى لها منذ أن فارقها في طلب العلم، فقضى بها مدة ثم عاد إلى بغداد، ثم رجع إلى طبرستان مرة ثانية سنة 290هـ، لكن بغداد جذبته فعاد إليها وأقام بها وانقطع للتدرس والتأليف حتى فارق الدنيا ([17]).
مكانته العلمية:
قد وهب الإمام الطبري (رحمه الله) نفسه لطلب العلم، ولذلك رحل في طلبه إلى كثير من الأقطار، وقطع الآفاق ليسمع من الأساتذة الذين ذاعت صيتهم، وقرأ ما استطاع أن يقرأه، وكان الحديث النبوي الواحد يحمله على طلبه في مظنه، قال: جئت إلى أبي حاتم السجستاني، وكان عنده حديث في القياس عن الأصمعي عن أبي زائدة، عن الشعبي، فسألته عنه، فحدثني به ([18]).
وكان لا يرضيه أن يجهل علما يستيطع الاحاطة به، ولا يرضيه أن يسأله أحد عن علم موصول بثقافته وهو لا يعرفه، حدث عن معرفته بعلم العروض فقال: جاءني يوما رجل، فسألني عن شيء من العروض، ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: إذا كان غدا فتعال إليّ، وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد، فجاء به، فنظرت فيه ليلتي، فأمسيت غير عروضي، وأصبحت عروضيا.
وكانت شهرته سببا في أن يسأله الناس، وباعثا له الاطلاع والاستزادة، فهو يتحدث بأنه لما دخل مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيه وامتحنه في العلم يتحقق به ([19]).
ولمكانته العلمية نجد تلاميذه وغيرهم يشيدون بسعة علمه بالفقه وعمق تفكيره، قال أبو بكر أحمد بن كامل أحد تلاميذه: "لم أر بعد أبي جعفر أجمع للعلم، وكُتب العلماء، ومعرفة اختلاف الفقهاء، وتمكنه من العلوم من أبي جعفر، لأني أروض نفسي في عمل مسند عبد الله بن مسعود في حديث منه نظير ما عمله أبو جعفر، فما أحسن عمله، وما يستقيم لي" ([20]).
وقال أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطبري أحد تلاميذه: "كان أبو جعفر من الفضل، والعلم، والذكاء، والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه؛ لجمعه من علوم الإسلام ما لا نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين، وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له" ([21]).
أخلاقه وورعه:
كان أبوه ورعا تقيا متصوفا، وكذلك اشتهر ابنه بالورع، والتقوى، والزهادة في الدنيا، وليس معنى هذا أنه ورث هذه الصفات لأنها مما لا يورث، بل معناه أن تأثر بأبيه، ومحاكاته له من الأسباب التي حببت إليه الورع، والزهادة، والاستغناء بما يرد إليه من حصته في مزرعة خلفها له أبوه بطبرستان ([22])، ويصفه كثير من تلاميذه بأنه كان زاهدا، عازفا عن الدنيا، مترفعا عن التماسها، خاشعا، أمينا، تقيا، ما سمعه أحد يحلف بالله عزوجل.
وقد عاش حياته أعزب عفيفا، قال مسلمة بن قاسم: كان حصورا لا يعرف النساء، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشر سنة، فلم يزل طالبا للعلم، مولعا به إلى أن مات ([23])، وفي حديث للطبري نفسه عن حياته بمصر قوله:"ما حللت سراويلي على حرام ولا على حلال ([24]).
وكان عزيز النفس لم يذل مرة، ولم يستهن بكرامة نفسه مرة، يقول: لما ترعرت سمح لي أبي بالسفر من مدينة آمل، وكان يبعث إلي بالمال، فأبطأت علي النفقة مرة، فاضطررت إلي أن فتقت كمّي القميص فبعتهما ([25]).
لقد كان يستطيع أن يقترض، ثم يرد القرض بعد قليل من الأيام، لكنه لم يفعل، وكان يستطيع أن يلجأ إلى ما يلجأ إليه الطلاب الغرباء في عصره من الاستعانة بذوي الثراء أو محبي العلم، لكنه آثر أن يبيع كمي قميصه لينفق من ثمنهما حتى توافيه نقود أبيه.
¥