وقد لزمته هذه الأنفة طيلة عمره، حتى كان يرفض الهدايا، والمنح؛ لأنه جرى على أن لايقبل هدية لا يستطيع أن يكافئ بمثلها، فإن كانت فوق طاقته ردها واعتذر إلى مهديها، وكثيرا ما رفض هدايا الوزراء، والكبراء على أن يقبلها ([26]).
وكان (رحمه الله) يقول:
إذا أعسرت لم يعلم شقيقي وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي لكنت إلى الغنى سهل الطريق ([27]).
جرأته في الحق:
لا غرابة في أن يكون الإمام الطبري شجاع القلب جريئا في اعلان ما يعتقده حقا؛ لأنه قد استكمل الأسباب التي تسلحه بهذه الجرأة من علم واسع، وورع مشهود، وإباء مترفع، واستهانة بالدنيا ومظاهرها، ولهذا كان "ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، مع عظم ما يلحقه من الأذى، والشناعات من جاهل وحاسد وملحد" ([28]).
وقد عرض عليه القضاء فأبى أن يقبله، ولقد يكون مبعث رفضه أنه جريء في الحق لا يراعي غير الله، ومن شأن القاضي أن تعرض عليه منازعات يتصل بعضها بأمراء ذلك العصر وحكامه، وهو لا يستطيع أن يماليء أميرا، أو يجامل وزيرا، أو يحابي كبيرا، فمن الخير أن يكون بعيدا عن هذا المآزق، وأن يفرغ للعلم، والتأليف، وتثقيف الطلاب، ناعما بحريته، وراحة ضميره، وربما كان ورعه هو السبب في رفضه ولاية المظالم، مخافة أن يجور في حكم من أحكامه، كما رفض الإمام أبو حنيفة (رحمه الله) منصب القضاء من قبله ([29]).
يذكرون أن الخاقاني لما تقلد الوزارة أرسل إلى الطبري مالا كثيرا، فأبى أن يقبله، فعرض عليه القضاء فامتنع، فعاتبه أصحابه، وقالوا له: لك في هذا ثواب، وتحيى سنة قد دُرست، وطمعوا في أن يقبل ولاية المظالم، فانتهرهم وقال: "قد كنت أظن أني لو رغبتُ في ذلك لنهيتموني عنه" ([30]).
أقوال العلماء فيه:
ما زال العلماء في زمانه وبعده يثنون عليه ويذكرون فضله، وعلمه، وزهده، وتقواه، فقد كان (رحمه الله) عالما بتفسير القرآن، والحلال، والحرام، وعالما بأخبار الناس، وأيامهم، وإماما في التفسير، والحديث، والجرح، والتعديل، وعالما بالأحكام وأصولها، وله أقوال، واختيارات جيدة انفرد بها عن غيره، وهو من الفضلاء الصالحين المتقين، شهد له أهل العلم بالفضل والتقى.
يقول الخطيب البغدادي (رحمه الله): "كان من أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته، وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم" ([31]).
وقال أبو أحمد الحسين بن علي بن محمد الرازي (رحمه الله): "أول ما سألني الإمام أبو بكر بن خزيمة (رحمه الله)، قال لي: كتبت عن محمد بن جرير الطبري؟ قلت: لا، قال: لم؟، قلت: لا يظهر، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه، فقال: بئس ما فعلت، ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنه" ([32]).
قال الإمام أبو بكر بن خزيمة (رحمه الله) لما قرأ كتاب التفسير للطبري: "ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة" ([33]).
وقال عبد الله بن أحمد أبو محمد الفرغاني ([34]) بعد أن ذكر تصانيفه: "وكان أبو جعفر ممن لا يأخذه في الله لومة لائم، ولا يعدل في علمه وتبيانه عن حق يلزمه لربه وللمسلمين، إلى باطل لرغبة، ولا لرهبة، مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى، والشناعات من جاهل، وحاسد، وملحد".
يقول الإمام ابن الأثير (رحمه الله): "أما أهل الدين والورع فغير منكرين علمه، وفضله، وزهده، وتركه الدنيا مع إقبالها عليه، وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلفها له أبوه بطبرستان" ([35]).
¥