وحمل الإمام ابن العربي (رحمه الله) قول الطبري أيضا على التخيير بين المسح والغسل فيقول: "واختار الطبري التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين في الخبر يُعمل بهما إذا لم يتنقاضا" ([45]).
ولكن هذا الاستنباط من كلام الإمام الطبري لا يصح، ومن يمعن النظر في كلامه فيدرك أنه اشترط المسح مع الغسل، والدلك مع امرار الماء، ولا يصح عنده امرار الماء على الأرجل في الغسل دون مسحهما.
قال الحافظ ابن كثير (رحمه الله): "ومن نقل عن أبي جعفر أنه أوجب غسلهما للأحاديث، وأوجب مسحهما للآية فلم يحقق مذهبه في ذلك، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء؛ لأنهما يليان الأرض، والطين وغير ذلك، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين، ومسحهما" ([46]).
وكذا الشيخ ابن عطية الغرناطي (رحمه الله) يقول: "وقال الطبري: إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما، ثم يمسح بيديه بعد ذلك، فيكون المرء غاسلا ماسحا، قال: ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضئ أن يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه" ([47]).
من رماه بالرفض ولما ذا؟:
يقول الإمام ابن الأثير (رحمه الله): "إنما بعض الحنابلة تعصبوا عليه، ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم، ولذلك سبب، وهو أن الطبري جمع كتابا ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيها، وإنما كان محدثا، فاشتد ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه" ([48]).
وقال الحافظ ابن كثير (رحمه الله): "بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا من دفنه نهارا، ونسبوا إليه الرفض، ومن الجهلة من رماه بالحاد وحاشاه من ذلك كله، بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داؤود الفقيه الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم والرفض" ([49]).
مذهبه:
عاش الإمام الطبري أكثر حياته في القرن الثالث، فدرس المذاهب، واعتنق مذهب الإمام الشافعي (رحمه الله) برهة من حياته، ثم استقل بمذهب خاص اختاره لنفسه ([50])، واحتج له في كتابه (لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام) واعتنقه بعض تلاميذه، وروجوا له، ثم انقطع أتباع مذهبه بعد القرن ا لرابع، لكن كتبه التي ألفها في مذهبه فقدت، فلا نعرف من آرائه إلا ما ذكره في كتابه (اختلاف الفقهاء) أو في تفسيره للقرآن الكريم (أو ما ذكره في كتابه "تهذيب الآثار" كما سنذكره إن شاء الله) أو ما حكاه عنه الفقهاء والمؤرخون ([51]).
ويقول أبو محمد الفرغاني: حدثني هارون بن عبد العزيز قال: قال لي أبو جعفر الطبري: "أظهرت مذهب الشافعي واقتديت به ببغداد عشر سنين، وتلقاه مني ابن بشار الأحول شيخ ابن شريج"، قال الفرغاني: فلما اتسع أداه بحثه واجتهاده إلى ما اختاره في كتبه" ([52]).
مؤلفاته:
الإمام الطبري من الأفذاذ الذين كثرت مؤلفاتهم وتنوعت مصنفاتهم في فنون شتى كلها تدل على سعة علمه وغزارة فكره وفضله.
قيل: مكث ابن جرير أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة، وقال تلميذه أبو محمد الفرغاني:"حسب تلامذة أبي جعفر منذ احتلم إلى أن مات، فقسموا على تلك المدة أوراق مصنفاته، فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة" ([53]).
ومن جملة تصانيفه:
1 - جامع البيان في تأويل آي القرأن، وهو من أهم التفاسير، قال أبو حامد الإسفراييني: "لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا" ([54]).
2- تاريخ الأمم والملوك، وأخبارهم ومن كان في زمن كل واحد منهم، وهذا الكتاب من الأفراد في الدنيا فضلا ونباهة وهو يجمع كثيرا من علوم الدين والدنيا.
¥