(فالأحكام الكبرى هي أسبق تأليفاً من (الأحكام الوسطى) و (الصغرى)، وقد سلك فيها أبو محمد منهج المحدثين الأصلاء، حيث ينقل كل حديث من مصنفه، بالسند الذي ذكره به صاحب ذلك المصنف، ثم يعقب الحديث بما فيه من علة، ولكنه لا يكثر من ذلك).
أقول: هذا الكلام يفهم منه أن أبا محمد لا يذكر إسناده إلى هؤلاء المصنفين في كل حديث من أحاديث كتابه هذا؛ ولكني رأيت بعض المخرجين المعاصرين ينسب الحديث إلى أبي محمد، مثل أن يقول: "أخرجه أبو داود، ومن طريقه عبد الحق الاشبيلي في (الأحكام الكبرى) "؛ وظاهر هذا العزو - كما هو مشهور عرفاً – أن عبد الحق ساق ذلك الحديث بإسناده إلى أبي داود.
ولعله يصح أن يُجمع بين هذا وذاك بأن عبد الحق كان ينشط أحياناً – دون أحيان أخرى - فيذكر الحديث بإسناد نفسه فيسوق الإسناد إلى صاحب الكتاب الذي أخرج الحديث من طريقه ثم يتم الإسناد إلى منتهاه؛ ومن وقف على الكتاب مخطوطاً - ولعله طبع ولم أعلم أنا بطبعه – فهو قادر على معرفة حقيقة الأمر في هذه القضية.
ولعل من وصف (الأحكام الكبرى) بأنها مسندة، أراد بذلك أن مؤلفها يذكر فيها أسانيد أصولها من الكتب.
وأما (الأحكام الوسطى) فقد اختصرها من (الكبرى) بحذف الأسانيد وجملة من الأبواب والمتون؛ ولكنه هنا، أي في الوسطى، زاد في الكلام على علل الحديث، واختلاف رواياته؛ ثم اختصر (الأحكام الوسطى) في مجلد أسماه (الأحكام الصغرى)، ولم يعن في هذا الكتاب بموضوع النقد الحديثي، ولا سيما أنه لم يحتج إلى ذلك كثيراً، لأنه كاد أن يقتصر فيه على ما في الصحيحين والموطأ.
هكذا وصف هذين المختصرين محقق (بيان الوهم والإيهام) (1/ 177 - 179).
...
هذا، ومن المحتمل أن يكون كتاب (الأحكام الكبرى) قد أفل نجمه وقل شأنه بعد تأليف (الأحكام الصغرى)، فهو أخصر منه، من جهة، وهو - على ما يظهر – أنفع منه، من جهة ثانية.
وأما قول الغبريني المتقدم نقله، وفيه تصريح بشهرة الأحكام الكبرى وتداول الناس لها؛ وقول ابن القطان المتقدم نقله أيضاً، وهو دال على أهمية الكتاب التي ألف كتابه عليه، وقول من العلماء أن ابن القطان ألف على (الأحكام الكبرى)؛ فأنا أرى، والله أعلم، أن المراد بالكبرى في كلام الغبريني هو الوسطى، فإنه لم يذكر إلا نسختين من الأحكام، فإنه قد قال (ص73 - 74): (وله رضي الله عنه تآليف جليلة نبل قدرها، واشتهر أمرها وتداولها [الناس] رواية وقراءة وشرحاً وتبييناً؛ له "الأحكام الكبرى" في الحديث، و "الأحكام الصغرى" فيه؛ وله---)؛ ثم لم يذكر نسخة ثالثة للأحكام.
وأستبعد جداً أن يكون مراده (الكبرى) و (الصغرى) التي وصفهما د. الحسين آيت سعيد؛ فإن الكتاب الذي هو أصل كتاب ابن القطان – وذلك الأصل هو (الأحكام الوسطى) بحسب تحقيق الدكتور المذكور – أهم وأشهر منهما، أي من (الكبرى) و (الصغرى) فهو في غاية الشهرة، كما يعلم من كلام ابن القطان المتقدم.
فيستبعد إذن أن يفوت الغبريني ذكره، كما يُستبعد أن يعدَّه غير متداول.
ومثل هذا يقال في ما قد تقدم من قول الحافظ الأبار: (صنف [أي أبو محمد] في الأحكام نسختين كبرى وصغرى)؛ فلم يذكر نسخة ثالثة.
وتوجيه هذا – فيما أراه – هو اضمحلال شأن الأحكام الكبرى وخمول أمرها، شيئاً فشيئاً، ثم انعدام تداولها بين الناس، وبذلك صار بين أيديهم نسختان من الأحكام، لا ثالثة لهما، وهما (الصغرى) و (الوسطى)، فأطلقوا على الكبرى منهما وصف الأكبرية، وعلى الصغرى وصف الأصغرية؛ فاشتهر الكتابان بهذين الإسمين؛ عند أغلب الناس؛ دون أن يعلموا أصل التسمية، أو دون أن يلتفتوا إلى ذلك.
****
وهذه الكتب الثلاثة وجدت مخطوطاتها؛ والحمد لله.
*****
إذن فكتاب (الأحكام الوسطى) هو الذي استدرك عليه ابن القطان في كتابه الشهير النفيس (بيان الوهم والإيهام)؛ وليس (الأحكام الكبرى)، كما قد توهم ذلك عدد من الأكابر والفضلاء، ومنهم الحافظ الذهبي، فقد قال في (السير):
(وصنف الحافظ القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الحميري الكتامي الفاسي المشهور بابن القطان كتاباً نفيساً في مجلدتين سماه (الوهم والإيهام فيما وقع من الخلل في "الأحكام الكبرى" لعبد الحق) يناقشه فيه فيما يتعلق بالعلل وبالحرج والتعديل؛ طالعته وعلقت منه فوائد جليلة).
¥