عندما نأتي إلى الواقع الملموس لا نجد منه تطبيقا لهذا المنهج ... ومثالنا الذي نبحثه هنا خير دليل على واقعه المرير ... فهو يتعامى تماما عن مصادمة هذه الحكاية – حسب فهمه اليقيني لها طبعا – للمنهج العقلي الصارم الذي وضعه علماء الإسلام في نقد المرويات ... وعن القواعد العلمية التي ابتكروها لحماية آثار نبيهم – صلى الله عليه وآله وسلم – بسياج قوي من الضوابط التي تستند إلى العقل، وإلى القضايا التاريخية ... فكان من كل ذلك ما عرف بأصول مصطلح الحديث ...
فكان حقا على الدكتور وقد علم بعض ذلك أن يتوقف مرارا وتكرارا قبل أن يدعي أنه فهم يقينا ما تعنيه كلمات ابن أبي أويس – رحمه الله - ... ولكن الدكتور للأسف يقدس الأرض التي كانت جزءا من تلك البقاع الإسلامية التي نشأ فيها ذلك المنهج العلمي الصارم في نقد النصوص وتمحيصها ... وأعني بها القيروان < رقادة > ... ثم يذهب يعيب أهل تلك الأرض ... ويهزأ بهم ... وهم صناع المنهج وأصحاب تلك المخطوطات الرِّقية التي يعشقها ... ويزعم بلسان حاله ومقاله أنهم كانوا يعبدون الله على جهل ... فأي عقل هذا؟
جاءت المشكلة في فهم هذه الجملة من كلام ابن أبي أويس من خلال تحميل كلمة " أضع " غير ما تحتمله ... وفهمها على غير معناها الصحيح الذي أراده منها قائلها ... وقد بدأ ذلك مع الإمام النسائي - رحمه الله - ثم تتابع عند بعضهم حتى وصل إلى الدكتور موراني ... فجعل من ذلك الفهم الخطأ يقينا ... ثم اتخذه سلما لدعاوى أخرى عريضة سيأتي بيانها ودحضها إن شاء الله.
فإذا نظرنا نظرة عجلى في مجموعة من معاجم اللغة وقواميسها؛ نجد أن المعنى الأصيل لمادة وضع كما يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: (الواو والضاد والعين: أصل واحد يدل على الخفض للشيء وحطه).
هذا المعنى للكلمة هو الذي يتكرر كثيرا في معاجم القوم ... أما المعنى الذي فهمه الدكتور - و ربما فهمه مِن قبله بعض علمائنا - فهو معنى مجازي كما نص عليه العلامة الزبيدي في تاجه ... ويبدو أن تفشي استعمال أهل الحديث للكلمة بمعنى: اختلق أو افترى أو ألصق به ما لم يقله ... قد بدأ متأخرا نسبيا ... منذ زمن الإمام النسائي أو قريبا من ذلك ... وقد كان الغالب عليهم وصف الإفتراء على الرسول الكريم – صلى الله عليه وآله وسلم – أو غيره ما لم يقله بـ < الكذب > ومشتقاته ... وكذا الحديث يوصف بالمكذوب ... وربما وصفوه بالسقيم كما جاء – مثلا - في مقدمة الصحيح للإمام مسلم – رحمه الله - ... وأما مصطلح " وضع الحديث ... والحديث الموضوع " بالمعنى المعروف في الأزمنة المتأخرة فهو أقل من القليل في استعمالهم ... .
ولسائل أن يسأل: فما المعنى الصحيح لهذه الكلمة الموهمة بالنسبة لبعض الناس؟
الجواب ما ذكره الأخ الفاضل:
أمَّا بالنسبة لقول: (إسماعيل بن أبي أويس [كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم]) فقصده أضع لهم مصنَّفًا في ذلك، أو أضع الحديث بينهم أي أخبرهم به.
في المشاركة رقم 10 من هذا الرابط:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=32896&highlight=%CB%E3%C7%E4
فهذا هو الفهم الصحيح والمعنى اللائق بهذه الكلمة ... وليس بالضرورة أن يكون ابن أبي أويس قد وضع لهم مصنفا بالمعنى المعروف فعلا ... بل يكفي في ذلك أن يكون قد وضع بين أيديهم الحديث أو الأحاديث مدونة في ورقة أو أوراق من مسموعاته عن شيوخه يذكرهم به ... هذا الذي قصده ابن أبي أويس ... وهذا الفهم الذي لو قال صاحبه إنه على يقين منه = لشهدت له بذلك المئات من النصوص والوثائق ... أما المعنى الآخر ففهم سقيم عاطل ... فأين ابن أبي أويس من أؤلئك النقاد المهرة ... من أمثال خاله مالك والمجاشون والداروردي وابن وهب وابن كنانة ... وعشرات غيرهم من علماء المدينة ... أنيام هم حتى يفتري ابن أبي أويس الكذب على نبيهم – صلى الله عليه وسلم - وهم صامتون ... لا ينقلون إلينا حرفا يبين فعله ذاك ... حتى يأتي هو ويفصح عن نفسه؟ أم هم قد علموا ذلك وسكتوا؟
ثم إن سبب وضعه للحديث حسبما فهمه الدكتور هو الاختلاف الحاصل بين علماء المدينة ... ومعلوم أنه إنما يفعل ذلك لينتصر لفئة على أخرى ... فالسؤال أين أهل الفئة الثانية؟ ألم يكن من المنطقي أن ينكروا عليه فعله هذا ويعيبونه لأنه جاءهم بما لم يعرفوه وهم هم؟
ثم لو فرضنا - جدلا - فَوْتَ ذلك عليهم جميعا ... لماذا لم يرفع الخلاف بين علماء المدينة ... ولم تتوحد كلمتهم نتيجة لتلك الأحاديث التي وضعها لهم ابن أبي أويس؟
فلينظر الدكتور في كتب التراث و في الوثائق التي بين يديه ... هل خفت درجة الخلاف بين علماء المدينة ... أم هي على حالها؟
ـ[عبد]ــــــــ[02 - 02 - 06, 04:32 ص]ـ
ما أشبه الليلة بالبارحة، قال العلامة المحقق المعلمي في "التنكيل":
((ولا نلوم الأستاذ في التشبث بالشبهات فإنه أقام نفسه مقاماً يضطره إلى ذلك، ولكننا كنا نود لو أعرض عن الشبهات التي قد سُبق إليها فحُلّت وانحلّت واضمحلّت، واقتصر على الأبكار التي يجد لذة في اختراعها، ويجد أهل العلم لذة في افتراعها!)) أ. هـ.
(ص608، ط. المكتب الإسلامي)
¥