وأنا أرى أن هذا الأمر إنما اشتهر وبولغ فيه، لأنه من مثل شعبة غريب بل عجيب، فذكره أولاً بعض النقاد، ثم تتابع جماعة منهم على ذكره، فظن بعض من لا يعنى بتحقيق المسائل أن شعبة يكثر منه ذلك؛ وهذه الكثرة المدعاة خلاف مقتضى إمامة شعبة وكمال تثبته وإتقانه.
ولعل الدارقطني أراد بالكثرة التعبير عن كون الخطأ ليس من القدر النادر الذي يقع فيه كل ثقة، بل هو أكثر من ذلك، وأنه – على قلته - يُستكثر من شعبة وأمثاله من الأئمة الحفاظ الأثبات؛ كتلميذ شعبة وخِرّيجه عبد الرحمن بن مهدي.
وقال أحد فضلاء الملتقى، ويكتب فيه بإسم (يحيى القطان) تحت هذا العنوان: (أثر التَّشابه بين الخطأ والصواب في الرسم) ما نصه:
(يُعدّ التشابه في رسم الخطأ والصواب من أعْقَد الأمور، ولا يكاد يقف عليه إلا الأفذاذ؛ ومع هذا فالخطأ في مثله مما يُحْتَمل من صاحبه؛ للاشتباه المشار إليه؛ ولذا احتملوا أخطاء مثل شعبة الإمام رحمة الله عليه في أسماء الرواة، ولم يسقط شعبة بأخطائه، ولا نزلتْ منزلته بما جرى له.
بل ولم يُشَنَّع عليه ويُهَوَّل به في مثل هذا؛ لأنَّه مما لا يكاد يسلم منه أحد إلا من عصمهم الله عز وجل؛ للاشتباه فيه بين الخطأ والصواب.
وتتجسَّد قضيتنا مشروحة واضحة في هذا السياق البديع الذي رصدَهُ لنا البرذعيُّ حين قال في (سؤالاته لأبي زرعة الرازي رحمه الله تعالى) (2/ 326 – أبو زرعة وجهوده للهاشمي): (وشهدتُ أبا زرعة ذكر عبد الرحمن بن مهدي ومدحه، وأطنبَ في مَدْحِه، وقال: وَهِمَ في غير شيء، قال: عن شهاب بن شريفة، وإنما هو: شهاب بن شُرْنُفة؛ وقال: عن سماك عن عبد الله بن ظالم، وإنما هو: مالك بن ظالم؛ وقال: عن هشام عن الحجاج عن عائد بن بطة، وإنما هو: ابن نضلة عن عليٍّ في الحدود؛ وقال: عن قيس بن جبير، وإنما هو: قيس بن حبتر----). ا. هـ.
فأنت ترى ما ذكره أبو زرعة رحمة الله عليه من أوهام ابن مهدي في مثل هذه الحروف المتشابهة في الرسم، عدا (عبد الله بن ظالم) و (مالك بن ظالم)؛ ومع هذا فهذا المثال قد يكون مما اختلف فيه قول ابن مهدي مع أبي زرعة، فقد اختلف الناس في الصواب فيه، وصوَّب الفلاس الوجهين: (عبد الله) و (مالك)، وقيل: بل هو (مالك بن عبد الله بن ظالم).
فهذا مما اختلف الناس فيه، فيخرج عن صراطنا الذي قصدنا له من بيان الأخطاء الناتجة عن تشابه الرسم.
ومع اعتراف أبي زرعة رحمة الله عليه بخطأِ ابن مهدي في هذه الأمثلة المذكورة، وتغييره: (حبتر) إلى (جبير) و (نضلة) إلى (بطة) و (شرنفة) إلى (شريفة)؛ إلا أن أبا زرعة رحمة الله عليه قد مدح ابن مهدي، بل وأطنب في مدحه رحمه الله).
انتهى ما أردت نقله هنا، وقد لا يوافق الكاتب الفاضل على ما قد يفهم من كلامه بأن سبب خطأ شعبة في الأسماء أحياناً هو الكتابة.
&&&&&
(12)
الإشارة إلى شدة بغضه للتدليس ونفرته منه
وبيان كيفية تحمله من المدلسين من شيوخه
كان شعبة شديد الكراهية للتدليس بعيد النفرة منه، وله في ذلك كلمات مأثورة وأخبار مشهورة؛ وقد أفرد ابن أبي حاتم لهذه المسألة في (التقدمة) (1/ 173) باباً سماه (باب ما ذكر من شدة قول شعبة في التدليس وكراهيته له)؛ وذكر تحته طائفة من الآثار الداخلة في معناه.
وكان شعبة من تلك الطائفة القليلة من الأئمة الذين لا يحدثون – أو في الأقل لا يكادون يحدثون - عن شيوخهم إلا بما تحققوا سماعه لأولئك الشيوخ ممن فوقهم؛ ولا يكتبون من أحاديث المدلسين من شيوخهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع.
قال ابن أبي حاتم في (تقدمة الجرح والتعديل) (1/ 162): (نا صالح بن أحمد نا علي قال: سمعت يحيى يقول: كل شيء يحدث به شعبة عن رجل فلا تحتاج أن تقول عن ذاك الرجل إنه سمع فلاناً؛ قد كفاك أمرَه).
وانظر في هذا الباب المبحث النفيس الذي كتبه الفاضل أخونا العاصمي حفظه الله، وترى بحثه هذا في رابط وضعته بذيل هذه المقالة.
&&&&&
(13)
زهده وورعه واجتهاده في العبادة
كان شعبة – مع كثرة علمه وكثرة انشغاله بالنقد الحديثي - عابداً مجتهداً زاهداً ورعاً متقشفاً.
وقد عقد ابن أبي حاتم في (تقدمة الجرح والتعديل) (1/ 172) باباً أسماه (ما ذكر من عبادة شعبة وزهده وورعه) قال فيه:
(حدثني أبى نا أبو المظفر عبد السلام بن مطهر قال: ما رأيت في الفقهاء مثل شعبة ايبس ولا امعن في العبادة منه.
¥