ووجود هذا التركيب الأعجمي في الحديث علة أخرى فيه! وكان على المنتصر للحميري إن عجز عن تحقيق صلاحية الحديث للاحتجاج أن يكون أمينا في النقل -على الأقل- وينقل كلام البيهقي في تضعيفه، وقد رآه! ولكن أهل الأهواء ينقلون ما لهم ويكتمون ما عليهم!
عوداً على بدء، فربما يُلتمس للحميري عُذر في أنه تكلم في غير اختصاصه -على أنه لما تكلم في اختصاصه ما جاء بأحسن من هذا، والحمد لله على العافية- بيد أن الحميري أغلق على غيره أن يعتذر له في اللغة، فيقول مزكيا نفسه بنفسه:
[أحب أن ألفت نظره بأن يكون على وعي تام في مخاطبة العقلاء، وأن الذي تخاطبه ليس أعرابيًا ولا حديث عهد على موائد العلم، بل هو من بيت مشهود له بالتقوى والعلم، اجتمعت فيه خصائص، لم تجتمع في غيره، فقرابتي لأمي حنابلة المذهب وقرابتي لأبي مالكية المذهب، معظمهم حفظة لكتاب الله، تربيت في أكنافهم على الفضيلة، واستننت على سيرة خال أبي العلامة الفقيه اللَّوذعي المحدث الشيخ مبارك بن علي الشامسي، وأصولنا بين أشراف وأنصار وحمير، ولست من المولدين الذين حذر منهم السلف كما في حديث سنن ابن ماجه (رقم 56) بسند ضعيف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولّدون أبناء سبايا الأمم، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا))].
قلت: نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا! يا حميري ما دامت أسرتك كما تقول فلماذا عدلت عمّا هم عليه وأسأت لسمعتهم؟ وهل تضليلك لأخوالك الحنابلة وسلفك أئمة الحديث من البر وصلة الرحم في شيء؟
وأقول: ما هذا الاستدلال بالآل بشافعٍ للحميري ولا رافع لخسيسته؛ وقد قال الله تعالى: (كل امرئ بما كسب رهين)، وقال: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)!
أما قضية المولَّدين فالذي أعرفه أن الاحتجاج في اللغة أُغلق مع نهاية حكم الأمويين، وقيل سنة 150 ورفعه بعضهم إلى سنة 200 ليدخل الإمام الشافعي، وكل هذا بالنسبة للبادية لا الحاضرة، والحميري ينفي أن يكون أعرابيا! فهل يريد أن يستثنيه اللغويون ويمدون الاحتجاج ثلاثة عشر قرنا مع غض النظر عن البداوة ليحتجوا بكلامه، فقط لأن أصوله [بين أشراف وأنصار وحمير]؟!
وقد شاهدنا من انطلاء العجمة على مصنفه ودفاعه عنه ما لا يدع مجالا لأهل اللغة في استثنائه من قاعدة المولَّدين! هذا من جهة اللغة.
أما من جهة بقية العلوم فلقد رأيناه في تخصصه كيف هو! فهو في غيره أضل سبيلا!
ثم إن الأعراب الذين على الفطرة والصدق خير منه ومن اعتقاده الردي، وكم سجل لنا التاريخ من تمني أئمة الكلام أن يكونوا كالعجائز والعامة والأعراب في سلامة الاعتقاد وبساطة الفطرة.
نعم، إن الحميري احتج بأنه ليس من المولَّدين الذين حذر منهم السلف، ثم احتج بحديث مرفوع لا يصح في ذلك في التحذير من المولدين أبناء السبايا أهل الرأي، فلا هو أحسن الاستدلال (وهو المتخصص بالحديث!) حين احتج بتحذير السلف بقوله: (كما في الحديث)!! فهل هذا تحذير السلف أو تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم -لو صح؟ ولا هو بالذي يحتج بالسلف أصلاً، بل هو في كتبه يردّ عليهم ويخالف سبيلهم، بل صرَّح في إغلاقه أن لأهل الحديث وأتباع السلف مذهبهم في حديث جابر، بينما له هو وجماعته الطرقية مذهبهم الآخر!
أما الذين جرى عليهم إطلاق المولَّدين وحصل التحذير منهم فذلك في مسائل اللغة بالدرجة الأولى وفي الغالب، وما يحصل من جهلهم بها تبعاً، كالتخليط بين الوعد والوعيد، والاستواء والاستيلاء، ونحو ذلك مما رده أئمة اللغة والسلف، ومثله قريبا أن (أنور) صيغة تفضيل صحيحة عند الحميري!
*قال الحميري: [هناك رسائل كثيرة قد حققت في المحافل العلمية ثم تبين بعد ذلك عدم صحة نسبتها إلى مؤلفيها، هل سمعنا يومًا أن سحبت الرسالة عن المحقق واتهم بالكذب والتزوير هو ومشرفه وجامعته؟! يا له من عجب، يتلوه عجب].
¥