وهكذا ما أشار له الحميري في ردّه بعده مما لا يثبت، حتى وإن رواه فلان وفلان ممن لا يقتصر على الصحيح، فعندنا مقياس وميزان للحكم على الأحاديث يُفترض أن يعرفه دكتور الحديث! وأما ما ذكره الحميري من مشابهة الضعاف والموضوعات لأوراد الطرقية فشيء لا نستغربه، فالملاحظ من جلّ أورادهم وأحزابهم -ولا سيما المتأخرة- خلوها تقريباً من الأذكار الصحيحة الواردة في السنّة، بينما تُبنى على مثل ما أورده الحميري من الواهيات والموضوعات وما لا أصل له، بل واستحسانات من لا علاقة له بالسنّة، ناهيك عن المضادة للسنّة والشركيات، ويحرصون ويتواصون عليها دون ما ثبت من هدي خير البشر صلى الله عليه وسلم، وسبحان من يهدي من يشاء ويُضل من يشاء!
وأعود لكلامه لأجيب على سؤاله الأخير قائلا: كلا، ليس هذا الأثر -الخارج عن بحثنا ابتداء- منقولا من دلائل الخيرات، وهو أقل ضعفاً من أوراده بكثير، إلا أن أحاديث مصنفك -المشار إليها- أُخذت من دلائل الخيرات! وهذا بيت القصيد!
*قال الحميري: [أما عن السيادة: فقد زعم بأن السلف لم يعرفوها، فاعلم أخي القارئ أن ذلك محض افتراء، فقد أخرج السخاوي في القول البديع ص126 بتحقيق الشيخ عوامة والحديث حسن كما ذكره المحقق: عن ابن مسعود قال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صليتم عليَّ فأحسنوا الصلاة، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يُعرَض عليَّ، قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبدك ورسولك، إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه المقام المحمود يغبطه به الأولون والآخرون))، أخرجه ابن ماجه والقاضي إسماعيل ص58 والطبراني في الكبير (9/ 115) والبيهقي في الدعوات (57) كما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس له هكذا، ورواه ابن أبي عاصم في حديث التشهد، فهل بتلك المزاعم المفتراة من المعترض تسقط النسخة؟!!]
قلت: استدل الحميري على معرفة السلف أجمعين للسيادة بأثر وحيد، ويجاب عنه بأمور:
أولاً: السخاوي لم يصح أن تقول (أخرج الحديث) لأنه لم يُسنده، وهذا الخطأ البدائي يُفترض أن لا يقع فيه دكتور (!) في الحديث!
ثانيا: ما دام الحميري دكتورا (!) في الحديث فما حاجته أن يقلد غيره في الحكم على الحديث؟ ولو أنه اعتمد فيه على حكم أحد الحفاظ أو من يُحتج بأحكامه لكان له بعض عذر، ومن ذلك فليس الحكم فصلاً، بل هو قابل للمناقشة، كيف وقد اعتمد على معاصر مثله ليس مرجعاً في التصحيح والتضعيف؟!
ثالثاً: إن الأثر الموقوف هذا ليس حسن الإسناد كما زُعم، بل هو ضعيف منكر، فهو من رواية المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أبي فاختة، عن الأسود بن يزيد، عن ابن مسعود موقوفا.
والحديث فيه اختلاف على عون، فرواه جماعة عن المسعودي هكذا، وتفرد بذكر أبي فاختة.
وخالفه عمرو بن مرة فرواه عن عون بن عبد الله، عن الأسود أو رجل من أصحاب عبد الله، عن عبد الله، ولم يذكر أبا فاختة.
ورواه الثوري عن مسعر، عن عون، عن رجل (مبهماً)، عن الأسود.
ورواه عدي بن الفضل عن مسعر، عن عون، عن الأسود بلا واسطة.
(انظر لما سبق علل الدارقطني 5/ 15 - 16 وحلية الأولياء 4/ 271)
ولا شك أن الأقوى فيما سبق رواية الثوري عن مسعر، فالحديث ضعيف الإسناد إلى الأسود لجهالة المبهم، وقد خالف سائر الرواة عن الأسود في صيغته (انظر مثلا مصادر المسند الجامع 11/ 538 - 542)، فضلا عن مخالفته للثابت عن ابن مسعود في التشهد، فهو منكر لا يثبت بحال.
والحديث ضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة، وغيره، إلا أنهم أعلوه باختلاط المسعودي، ولا يتجه الإعلال بالاختلاط -تحديداً- لرواية بعض القدماء عنه، والصواب إعلاله بما ذكرت.
خامساً: وبعد أن انهدم دليل الحميري اليتيم وثبت ضعفه نورد عليه ما ثبت مما يعارضه، ومنه حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من بني عامر، فسلّمنا عليه، فقالوا: أنت والدنا، وأنت سيدنا، وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا. فقال: "قولوا بقولكم لا تستهوينكم الشياطين". وفي رواية: "قالوا: أنت سيدنا. قال: السيد الله". رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي في الكبرى وغيرهم، وصححه الضياء وابن مفلح وغيرهما.
¥