لأن العرب الذين نزل عليهم القرآن لا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة
ولا يصح أن يقال: إن التمكن في التفقه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني بإجماع العلماء كما نبه عليه الشاطبي في أكثر من موضع
ولذلك كان الصواب عدم إمكان ترجمة القرآن إلا من جهة كون اللغة ألفاظا وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة لا من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة.
ولا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة إلى لمن بلغ رتبة الاجتهاد في هذا العلم
بمعنى آخر:
الغاية المنشودة من اشتراط تعلم هذا العلم للمجتهد هي معرفة مقاصد العرب من خطابها بحيث يكون فهمه لها كفهم العربي والصحابي رضي الله عنهم
فلما كانت أحكام الشريعة موضوعة لتحقيق مقاصد الشارع
صح اشتراط معرفة مقاصد الشريعة للمجتهد
ولما كانت معرفة هذه المقاصد شرط في المجتهد فلا يوثق بفهمه للنصوص إلا بعد معرفتها
وكانت هذه المعرفة لا تحصل إلا ببلوغ درجة الاجتهاد في هذه الأحكام
وكان خطاب الشارع موضوع على مقاصد العرب من خطابها وما تعرفه من معاني لسانها وأنحائه
وكانت قد نزلت على المعهود من لسان الأميين من العرب
صح اشتراط معرفة مقاصد العربية للمجتهد
ولما كانت معرفة مقاصد العرب من خطابها لا تتأتى إلا بالاجتهاد في هذه اللغة
كان اشتراط بلوغ درجة الاجتهاد في لغة العرب للمجتهد في الشرع وجيها صحيحا
بمعنى آخر:
خلاصة ما يدندن حوله الشاطبي هو تحرير الفهم
فمن لم يكن فهمه حجة للنصوص وكلام العرب كيف يوثق بفهمه
وما هو السبيل إلى أن يكون فهم المجتهد حجة للنصوص الشرعية يا شاطبي؟
الجواب: بلوغ درجة الاجتهاد في علم العربية
وأما الثالث:
فإنه يشكل عليه أنه يلزم من اشتراطه انعدام وجود مجتهد واللازم باطل فالملزوم مثله
ويجاب عنه بأنه لا يلزم منه الانعدام بل يلزم منه الندرة ولا مانع من وقوع الثاني عقلا وشرعا
ويشكل عليه أن يكون أهل اللغة أحق بوصف المجتهد في الشرع من غيرهم وليس الأمر كذلك
ويجاب عنه بأن شرطي المجتهد:
العلم بمقاصد الشارع
ومقاصد العرب
وبلوغ درجة الاجتهاد لا تتحقق إلا بالشرطين معا لا بكل واحد منهما على الانفراد
ويشكل عليه انعدام وجود المجتهد في اللغة الذي بلغ فهمه فهم العربي منذ عصور فكيف لمن يطلب هذه الدرجة أن يبلغها بلا تعلمها على يد من وصل إليها
ويمكن أن يسلك في الجواب عنه مسلكان:
الأول البحث عمن بلغ هذه المرتبة فيبطل الاعتراض.
الثاني أن يقال لقد ذلل لنا أئمة اللغة الطريق إلى ذلك في المصنفات فبلوغ هذه الدرجة من هذه الطريق ممكن.
ويشكل عليه شهادة بعض العلماء بالاجتهاد لعلماء لم يتحقق فيهم هذا الشرط
ويجاب عنه بأنه لا إلزام إلا إذا اتفقوا على هذه الشهادة
أو لاحتمال اعتقادهم أنه بلغ هذه الدرجة فيكون الاعتراض في غير محل النزاع
ويشكل عليه انعدام وجود المجتهد في اللغة الذي بلغ فهمه فهم العربي منذ عصور وهو مخالف لما تقرر في الأصول من بطلان خلو العصر من مجتهد
ويجاب عنه أن في المسألة خلاف والجمهور على خلاف هذا القول بل حكي الإجماع على انعدامه من المئة الرابعة
وإذا كان ذلك كذلك بطل الاعتراض لأن المعترض عليه لا يسلم بصحة ما اعترض عليه أصلا فكيف يعترض عليه بأصل هو لا يثبته.
ويشكل عليه أن الثلاثة دون الشافعي لم يتحقق فيهم هذا الشرط وقد اتفقوا على بلوغهم درجة الاجتهاد في الشرع
ويشكل عليه أنه يمكن الاطلاع على مقاصد العربية دون الاجتهاد فيها كما جوزته في باقي العلوم الخادمة إذ قلت: ((الموافقات (5/ 44)):
"لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالمًا بها مجتهدًا فيها.
وتارة يكون حافظًا لها متمكنًا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها.
وتارة يكون غير حافظ ولا عارف إلا أنه عالم بغايتها وأن له افتقارًا إليها في مسألته التي يجتهد فيها فهو بحيث إذا عنت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة بمسألته؛ فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم، وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة.
¥