البيع بعد نداء الجمعة الثاني محرم، لقوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع).
فلو قال قائلٌ:
الهبةُ محرمةٌ أيضا، لأنها عقدُ تمليك، كعقد البيع، فهل يصِحُّ هذا القياسُ؟
الجواب:
ننظرُ، إذا كانت العلةُ مطردة صحَّ القياسُ، و إذا كانت غيرَ مطردة لم يصحَّ القياسُ.
العلةُ في البيع أن البيع و الشراء يكثر في المجتمعات، و لهذا لو قارنت بين عقود الهبات و عقود البيع و الشراء لوجدت عقود الهبات قليلة بالنسبة لعقود البيع.
إذا نقول بأن العلة هنا غير مطردة، و ذلك لأن البيع و الشراء يكثر جدا، و النفوس تدعو إليه، بخلاف الهبة، فلا يصح قياسُ الهبة على البيع و الشراء، لعدم اطّراد العلة فيهما.
و لو قال قائل:
ما تقولون في التأجير بعد نداء الجمعة الثاني؟
قلنا:
إن الإجارة بيع عقد معاوضة مبني على المشاحة فهي في حكم البيع فلا تصح لمن تجب عليه الجمعة كالبيع.
الفائدة 203
قوله رحمه الله:
171 ـ لم تنتقض لفظا و لا معنى فلا ... قياسَ في ذات انتقاض مسجلا
قلنا:
إن من شرط العلة أن تكون العلة مطردة و معنى الاطراد: أن توجد العلة حيث يوجد الحكم، و أن يوجد الحكم حيث توجد العلة، فلو تخلفت العلة عن الحكم لم تكن علة له، و لو تخلف الحكم عن العلة لم تكن هي علة له، و لم يكن تابعا لها فيشترط في العلة أن تكون مطردة في جميع معلولاتها، فلا تنتقض لفظا بأن تصدق الأوصافُ المعبَّرُ بها عنها في صورةٍ لا يوجد الحكمُ معها، و لا معنىً بأن يوجد المعنى المعلّلُ به في صورةٍ، و لا يوجدُ الحكمُ.
فمتى انتقضت العلةُ لفظا أو معنى فلا يصحُّ القياسُ، و هذا معنى قوله: فلا قياسٌ في ذات انتقاض ٍ.
أي: فلا يصحُّ القياسُ في انتقاض العلةِ لفظا أو معنى، كما علمتَ.
و قوله (مسجلا) أي: مقتضَيا محكوما.
الفائدة 204
مثال الأول:
و هو انتقاض العلة لفظا: أن يقال: القتلُ بالمثقّل يوجبُ القصاصَ كالقتلِ بالمحدّد، و الجامع بينهما القتلُ العمدُ العدوانُ.
مثالُ المثقّلِ:
الحجرُ الذي لا يجرَحُ، أو الخشبةُ، فلو ضرب بها شخص شخصاً فمات، فهذا يقتصُّ منه عند جمهور العلماءِِِ رحمهم الله،
و قال بعضُ أهل العلم:
إنه لا يقتصُّ منه، لأنه لا قِصاصَ، إلا إذا كانت الآلةُ محدّدةً كالسكينِ مثلاً.
فعندنا الآن القتلُ بالسكينِ عمدا موجبٌ للقصاصِ، و القتلُ بالخشبةِ و نحوها مما يقتلُ بثقله مختلف فيه، منهم من قال: لا قِصاصَ، و أنه يعتبرُ شبهَ عمدٍ، و منهم من قال: إن فيه قِصاصا، و هم الجمهورُ، و عللوا بأنه عمدٌ كالمحدد تماما.
لكن إذا عللنا بأنه عمدٌ قال لنا قائلٌ:
هذه العلةُ منتقضةٌ بما لو قتل الرجلُ ابنه عمدا فإنه لا يقتلُ به على رأي الجمهورِ، مع أن العلةَ ـ و هي العمديةُ ـ موجودةٌ. هكذا مثّل في الشرح.
و هذا المثالُ فيه نظرٌ، لأن الصوابَ في إجراء القياس في هذا أن نقولَ: القتلُ بالمثقلِ موجبٌ للقصاص كالمحدّدِ، لأن كلاّ منهما يقتلُ غالباً، هذه هي العلةُ، فكما أن القتلَ بالمحدّدِ يقتلُ، فالقتلُ بالمثقّلِ الثقيلِ مع الضربِ بقوةٍ يقتلُ، و هذا هو تعليلُ الجمهورِ، و على هذا فلا ينتقضُ علينا بقتل الوالد لابنه.
لكن قد ينتقضُ علينا حتى في هذه الحال، فيقالُ: إذا قتل الوالد ابنه بمحدد فإنه لا قصاص مع وجود العمدية، و مع وجود المحدد، لكنَّ منع قتل الوالد بابنه ليس لعدم شروط القصاص، لكن لوجود مانع، و هو الأبوّةُ، و لهذا في الحقيقة لا نجد مثالا صحيحا لهذه المسألة.
و الواقع فيها أن نقول:
إن العلةَ لا بد أن تكون مطردة، توجد إذا وجد الحكم، و تنتفي إذا انتفى الحكمُ، فإن لم تكنْ مطردة فقد تبيّن أنها ليست هي العلةَ.
الفائدة 205
مثالُ الثاني، و هو انتقاضُ العلة معنىً:
أن يقالَ: تجبُ الزكاةُ في المواشي لدفع حاجةِ الفقيرِ.
¥