فلعله أراد أن الكنية بلفظها لايفهم من وضعه مدح ولاذم كالاسم، و أن مدلولها ومدلول الاسم علم مسمى واحد، أما المخاطبة والنداء بها فهو للتكثير والتفخيم والإكرام للمكنى، كما لو قلت: حارث الهمام، اسمه حارث، أو كنية: أبو همام، فإن هذا اللفظ لايدل بذاته على مدح أو ذم، أما إذا ناديت المسمى به عادلاً عن اسمه، فهذا ما جرى مجرى الإكرام وتفخيم. ولهذا قرن هذا بالكلام على اللقب الذي يفهم من وضعه ولفظه إما مدحاً أوذماً.
فائدة: حاصل كلام بعضهم -ويأتي- أن اللكنية من حيث دلالتها على المدح أو الذم تجتمع مع الاسم باعتبار، وتجتمع مع اللقب باعتبار، فباعتبار دلالتها على المدلول الأصلي مجرداً تجتمع مع الاسم، فلا تفيد مدحاً ولا ذماً إلاّ بقرينة مشعرة. وباعتبار إطلاقها في المخاطبة والنداء فالأصل أن تجتمع مع ألقاب التكريم، وعلى خلاف الأصل اجتماعها مع ألقاب الذأم.
وكلامنا هنا إطلاقها في الخطاب والنداء.
فتحصل بهذا ثلاثة أوجه في الآية (تبت يدا أبي لهب):
1 - كناه والأصل في التكنية التشريف، لأحد الأسباب الثلاثة التي اقتضت ذكر الكنية وأشار إليها الزمخشري وهذا يبين أن الأصل التشريف وقد ينتقل عن ذلك الأصل لنحو ما ذكر، وفي غير الآية قد ينتقل عنه إذا جرت الكنية مجرى النبذ باللقب كأبي جهل وكنيته أبو الحكم، وقد ذكر طرفاً من هذا البيهقي في المحاسن والمساوئ (محاسن مضاحيك وألقاب) فلينظره من شاء.
2 - كناه لأن التكنية أقل شأناً من التسمية. ومن ذكر هذا القول لاينبغي أن يحتاج إلى ذكر الثلاثة التي قبله، إلاّ على فرض التسليم لمعترض فيذكر في جوابه الثلاثة المذكورة أولاً، ثم ينتقل من التسليم إلى الاعتراض فيذكر هذا. وإلاّ فما الحاجة لأن يذكر الثلاثة التي قبلها وكأنه يخرج بها شيئاً عن أصله، مع أنه لايقول بالأصل [فضل التكنية على التسمية] أصلاً.
3 - اللتكنية والتسمية على حد سواء فاختار التكنية لمناسبتها حاله يوم القيامة، وإليه أشار ابن حجر.
فائدة: ومن يقول بهذا القول الثالث لايعني أن التكنية كالتسمية في مدلولهما فالمكنى هو عين المسمى بلا إشكال، ولكن المراد نفس إطلاق الكنية أو الاسم في الخطاب أو النداء سواء عنده.
كما أنهم يردون بالتسوية عند الإطلاق بغير قرائن وإلاّ فمن الشائع أن التعبير بالاسم في مواطن مقيدة أشرف في بعض الأعراف، قال الصولي في أدب الكاتب: "ويعنون إلى الأمير بالإسم والتأمير، بغير دعاء ولا كنية اكتفاء بجلالة التأمير، والإسم مع التأمير أجل من الكنية لأنه أشبه بمكاتبة الخلفاء لأنهم يقولون في التصدير للإمام (لعبد الله فلان الإمام أمير المؤمنين)، ولا يأتون بكنية فكذلك شبهوا هذا به، فكان الإسم مع التأمير أجل من الكنية. ثم يكتبون في التصدير للإمام (لعبد الله فلان الإمام أمير المؤمنين). ولولي العهد للأمير أبي فلان فلان بن فلان، كناه الإمام أو لم يكنه ففرقوأ بينه وبين الإمام.
وقد يذكر الإمام في سكة الضرب باسمه، ويذكرون ولي العهد يكنيته كما ذكرت لك".
ولعل هذا الذي ذكره أمر عرفي حادث في الإسلام ولهذا قال القلقشندي في صبح الأعشى: "واعلم أن الأولين أكثر ما كانوا يعظمون بعضهم بعضا في المخاطبات ونحوها بالكنى، ويرون ذلك في غاية الرفعة ونهاية التعظيم، حتى في الخلفاء والملوك فيقال: أبو فلان فلان، وبالغوا في ذلك حتى كنوا من اسمه في الأصل كنية فقالوا في أبي بكر أبو المناقب اعتناء بشأن الكنية، وربما وقف الأمر في الزمن القديم في تكنية خاصة الخليفة وأمرائه على ما يكنيه به الخليفة، فيكون له في الرفعة منتهى ينتهي إليه ثم رجع أمرهم بعد ذلك إلى التعظيم بالألقاب.
على أن التعظيم بالكنى باق في الخلفاء والملوك فمن دونهم إلى الان على ما ستقف عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى وكذلك القضاة والعلماء بخلاف الأمراء والجند والكتاب فإنه لا عناية لهم بالتكني ثم لا فرق في جواز التكني بين الرجال والنساء .. ".
ولعل الذي يظهر في وجه تكنية عبدالعزى في آية سورة المسد قرب ما اختاره الزمخشري وتبعه عليه غير واحد من المفسرين، أما القول الرابع ففيه ضعف ظاهر.
وذلك لأسباب منها:
¥