- ما ثبت من تكنية النبي صلى الله عليه وسلم لعدد من أصحابه من ولد له ومن لم يولد وكذلك السلف، فإن كان هو الاسم سواء أو كان الاسم خيراً ما عدلوا إليها، خاصة مع إرشاده صلى الله عليه وسلم للدعاء بأحب الأسماء. ولهذا قال النووي: "ويستحب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء، سواء كان له ولد، أم لا، وسواء كني بولده، أم بغيره". أهـ من روضة الطالبين، وذكره غيره.
* فائدة: من العجيب أن أبا حيان رحمه الله بعد أن قرر الاحتمال الرابع المذكور رجع في أول سورة الحجرات فقال:
"وفي الحديث: «كنوا أولادكم». قال عطاء: مخافة الألقاب. وعن عمر: «أشيعوا الكنى فإنها سنة». انتهى، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق، وتتهادى أخباره الرفاق، كما جرى في كنيتي بأبي حيان، واسمي محمد. فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر، مما يقع فيه الاشتراك، لم أشتهر تلك الشهرة، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيراً ما يلقبون الألقاب، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي:
يا أهل أندلس ما عندكم أدب * بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب
يدعى الشباب شيوخاً في مجالسهم * والشيخ عندكم يدعى بتلقيب ... "!
فرجع على الوجه الأخير الذي ذكره بالنقض، وماذا إلاّ لرسوخ ما قُرر في عرف العرب، وكذلك ابن حجر قرر ما قرر ثم نقل ما نقل.
فإذا تقرر ذلك، فقد يرد سؤال أشار إليه أبو حيان وهو: لماذا لم يكن الله أحداً من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهم بالإكرام أولى، وبالإعظام أحرى؟
وجوابه ما قاله الزمخشري:
"قالوا: لم تكن الكنى لشيء من الأمم إلا للعرب وهي من مفاخرها"، وقد استجل السيوطي هذه الفائدة في المزهر، وهذا شائع معروف إلى يوم الناس هذا. فالعجم عندهم الألقاب كما أشار ابن القيم وعندهم النداء باسم الجد أو نحوه للرجل، وباسم الزوج للمرأة.
فإن قيل: فلماذ ما أكرم محمداً صلى الله عليه وسلم بالتكنية؟
أجيب عليه من وجوه فيقال"
1 - لقد أكرم الله نبيه عليه الصلاة والسلام بما هو فوق ذلك فأشار إليه في مقامات التشريف باسم العبودية المحضة المنسوبة لرب البرية.
2 - ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم مذكور باسمه في كتب أهل الكتاب، (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ) الآية، فلما كان الخطاب لهم باسمه ناسب أن يصرح في القرآن بما ذكره لهم.
3 - ووجه آخر ذكره غزالي عصره أبوعلي الحسن اليوسي في المحاضرات فقال: "وأما الكنية واللقب فيعتبران بوجهين: الأول نفس إطلاق الكنية واللقب، وهما في هذا مختلفان، فإن الكنية الكثير فيها إذا لم تكن اسماً أن يراد بها التعظيم وينبغي أن يعلم أن الناس باعتبارها ثلاثة أصناف:
1 - صنف لا يكنى لحقارته، وهو معلوم من أن الحقارة أمر إضافي، فرب حقير يكون له من يراه بعين التعظيم فيكنيه، والمقصود أن التحقير من حيث هو حقير لا يكنى إلاّ هزءاً أو تلميحاً.
2 - وصنف لا ينبغي أن يكنى لاستغنائه عنها وترفعه عن مقتضاها، ومن ثم لا يكنى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم أرفع من ذلك حتى إنهم أشرفت رفعتهم على أسمائهم فشرفت، فإذا ذكروا بها كانت أرفع من
الكنى في حق غيرهم، وللملوك وسائر أكابر الناس نصيب من هذا المعنى.
3 - وصنف متوسط بين هذين، وهو الذي يكنى تعظيماً، ثم إن كان التعظيم مطلوباً ككنية أهل العلم والدين ومن يحسن شرعاً تعظيمه فحسن، وكذا اكتناء المرء بنفسه إن كان تحدثاً بالنعمة أو تبركاً بالكنية باعتبار من صدرت عنه أو نحو ذلك من المقاصد الجميلة فحسن، وإلاّ فمن الشهوات النفسانية، فما كان تكبراً أو تعظيماً لمن لا يجوز تعظيمه بغير ضرورة ونحو ذلك فحرام، وإلاّ فمباح، وليس من هذا الباب ما يقصده به مجرد الإخبار فقط كقولك جاء
أبي أو أبو فلان هذا أي والده، ولا يقصد به معناه على وجه التفاؤل مثلاً نحو أبي الخير وأم السعد.
وأما اللقب فيقصد به كل من المدح والذم وغير ذلك، والحكم كالذي قبله.
الوجه الثاني النظر إلى مدلولهما الأصلي، وهما في ذلك كما مرّ في الاسم بل ذلك هنا أولى، لأن الأصل فيه أوضح".
فهذه ثلاثة أوجه تقضي على الاعتراض المذكور.
أما الاعتراض بتكنية بعض الكفار من قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة فجوابه من أوجه:
- منها ما قرره النووي من اشتراط شروط لها من نحو عدم اشتهاره إلاّ بها، أو خيف من ذكره باسمه محظور أو فتنة. وكلا الوجهين استعملهما الزمخشري في تخريج آية سورة المسد.
- وقد يقال الأصل أن التكنية إكرام وهذا الأصل قد ينتقل عنه لناقل ظاهر، يفيد غير الإكرام كالتهكم مثلاً، وقد مثل له الزمخشري في تفسير الآية وغيره. كما سمى الحميم للكفار نزلاً، وقال: (إنك أنت العزيز الكريم) تهكماً، وكذلك قوله (أبي لهب * سيصلى ناراً ذات لهب)، كما يقال اليوم على سبيل التهكم: لأنتفن شاربك يا أبا الشوارب! ألا ترى أن ذلك أبلغ في السخرية إن عرف بإكرام الناس له بما أهنته به.
- وقد يقال ليس من الإكرام المنهي عنه تكنية غير الحربي أصلاً، بل هو مندرج تحت قوله: (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) الآية، وبالأخص إذا اجتمع مع هذا قصد إلى ترغيبه في الإسلام ودعوته، ولعل هذا هو الأقرب غير أنه غير متوجه في الآية.
فإن قيل سقط الوجه الرابع في تخريج آية المسد، فبأي الأوجه الثلاثة الأخرى ينبغي أن يقال؟
قيل بجميعها فكلها صحيحة، وكل واحد منها بمجرده كفيل بإدراك سبب العدول عن التسمية فلما اجتمعت جميعها كان العدول عن ذكر الاسم إلى الكنية بديعاً بليغاً معجزاً عن الإتيان بنظير أو بديل.
والله أعلم، وأحكم.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحابه أجمعين.
¥