فصار الكتاب عِبْرةً للمُعتبرينَ، وآيةً للمُتَوسِّمينَ" [6] ( http://www.alukah.net/articles/1/3386.aspx#_ftn6).
فالصِّلَة إذًا بين العَرُوض والمُوسيقى قديمةٌ ثابتةٌ، وإغفالها يُؤَدِّي إلى فَصْم عُرًى وثيقةٍ فَصْمًا يخلُّ بفَهم العَرُوض، وإتقانه، وتطبيقه.
2 - التَّوَسُّل لتقطيع الأبيات، بوضع الإشارات المختلفة، التي تمثِّل المُتَحَرِّك والسَّاكن (/، O، أو -،.) ولا تفيد شيئًا في معرفة وزن البيتِ أوِ الكَشْف عن مَواطِن كسرِه، وما قد يكون فيه من خَلَل؛ بل هي وسيلةٌ يَتَحَوَّل فيها هذا الفَنّ السَّماعي المُعتمِد على الذَّوقِ إلى رموزٍ مكتوبةٍ، لا طائل منها، وأذكر أنَّ عَلاَّمة الشام، أستاذَنا النّفَّاخ - رحمه الله - كان يَنْهانا عن سلوك هذا المسلك - أي عن استعمال هذه الإشارات التي لا تُغْنِي عن المُقَطِّع شيئًا، وكان أن اعترضَ عليه أحدُ الطَّلَبة بأنَّه لا يَقْوى على التَّقطيعِ إلاَّ بهذه الوسيلة، فأجابه الأستاذ على التوِّ: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [سورة مريم: 75].
3 - ربطُ تعلُّم العَرُوض بفَهم دوائر البُحُور، وهيَ دوائر تدلُّ على عبقريَّة الخليل، وقوة إبداعه في تأليف تفعيلات البحور، وفكّها بعضها من بعض، والإشارة إلى ما استعمل من البحور وما أهمل [7] ( http://www.alukah.net/articles/1/3386.aspx#_ftn7)؛ لكنَّها على ما فيها من إبداع وابتكار، لا تفيد في تيسير معرفة الوزن، ولا تُقَوِّي الحسَّ العروضي؛ بل لا تكاد تُسْهِم في ذلكَ، ووقعها على المتعلم الريّض المبتدئ أشبه بوقع الطَّلاسم والمعمّيات، ومن طريف ما يُروَى أن محمد بن عبدالوهاب الثقفي لَقِيَ ابن مُناذِر الشاعر - وكان بينهما إِحْنَةٌ - في مسجد البصرة، ومعه دفترٌ فيه كتاب العَرُوض بدوائره، ولم يكن محمدٌ يعرف العَرُوض، فجعل يلحظُ الكتاب، ويقرؤه فلا يفهمه، وابن مناذر متغافلٌ عن فعله، ثم قال له: "ما في كتابك هذا؟ "، فخبَّأهُ في كمِّه، وقال: "وأيُّ شيءٍ عليك مما فيه؟ "، فتعلَّق به ولبّبه، فقال ابن مناذر: "يا أبا الصلت، اللهَ اللهَ في دمي، فطمع فيه وصاح: يا زنديقُ، في كمّك الزَّندَقة، فاجتمع الناس إليه، فأخرج الدَّفتر من كُمِّه، وأراهم إيَّاه، فعرفوا براءته مما قذفه به، ووثبوا على محمد بن عبدالوهاب، واستخفوا به، وانصرف بِخِزْيٍ [8] ( http://www.alukah.net/articles/1/3386.aspx#_ftn8)، هذا؛ وقد تناول نَفَرٌ من علماء العَرُوض المُحْدَثِينَ الاحتكام إلى هذه الدَّوائر بالنَّقد.
4 - مُوَاجَهة الطالب بحشد منَ المباحث والمُصطَلَحات العَرُوضيَّة المُتَداخلة، ينوء بحفظها، ويطول عهده بتطبيقها، أو بتوزيعها على أبحرها الخاصَّة بها، وحقُّها أن تُرْجَأَ، وتُوَزَّع على بحورها، فلا تُذْكَرُ أمام الطالب إلاَّ بعد معرفته البحر الذي ترد فيه.
5 - البَدْءُ بالصَّعب منَ البُحُور، والتَّدَرُّج نحو الأسهل، مع أنَّ طبيعة الأمور تقتضي العكس، فالبدءُ بالأسهل يُعِين على فَهم الأصعب، وأعني بالأسهل ما تَأَلَّفَ من تفعيلة واحدة بسيطة أو خفيفة؛ كـ"فاعلن"، و"فعولن"؛ إذ إنَّ تَعَلُّمها، ومعرفة إيقاعها يُعينُ الطَّالبَ على تَعَلُّم التَّفعيلات الأطول، ويُمَهِّد لمعرفة تداخل التَّفعيلات المختلفَة.
إنَّ أسباب الصُّعوبة هذه - على اختلافها - جديرة بالدِّراسة والبحث، وفي تَجَنُّبها تيسير لتعليم العَرُوض، وتذليل لكثيرٍ منَ العَقَبات المُعتَرضة طريقَه، على أنَّ أهمَّها وأكثرَها تأثيرًا في تعليم العَرُوض السببُ الأَوَّل، وهو إغفال الصِّلة بين العَرُوض والموسيقى والإيقاع، ففي إعادة هذه الصلة عودٌ بالعَرُوض إلى منابِعه الأولى وموارده الصافية، وهو ما يرمي إليه هذا البحث.
علاقة العروض بالغناء والإيقاع:
يقول حسَّان بن ثابت شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا كُنْتَ قَائِلَهُ إِنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ
والعَلاقة بين الشِّعر وبين الموسيقى والنَّغَم والإيقاع عَلاقةٌ وثيقة، لا تكاد تخفى على أحد، وأمثلتها في أدبنا القديم أكثر من أن تُحصَى أو تستظهر.
¥