قال الإمام الشافعي في أول كتابه (الأم): (كل ماء من بحر عذب أو مالح فالتطهر به جائز) فأنكر عليه المبرّد وغيره ونسبوا الإمام إلى اللحن، وقالوا: الصواب: ملح لا مالح؛ لأن الله تعالى قال: (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)، فأثار ذلك حفيظة الأئمة من الشافعية، كالبيهقي والجونني والنووي، وحُقَّ لهم ذلك، فالشافعي إمام في اللغة نقلا ودراية، وأجابوا بأجوبة نقلها النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) وأقومها وأقواها: أن هذه الصيغة من الصيغ المنقولة عن العرب، يقال: ماء ملح وماء مالح، وفيه لغتان أخريان، مَليح ومُلاح، بضم الميم، ولام مخففة، نقلها أبو سليمان الخطابي، ومن شواهدها قول عمر بن أبي ربيعة:
ولو تفلتْ في البحرِ والبحرُ مالحٌ
لأصبحَ ماءُ البحرِ من ريقها عذبَا
ووجد هذا البيت في قصيدة لمحمد بن أبي صفرة، واستشهد لها ابن برّي بشواهد أخر، وأثبتها ابن فارس والراغب الأصفهاني، والبَطَلْيوسي، وآخرون، وقالوا: إنها لغة صحيحة قليلة، ونقل الأزهري عن أبي عُمر غلامِ ثعلب قال: سمعت ثعلبا يقول: كلام العرب: ماء مالح، وسمك مالح، وقد جاء ماء مِلْحٌ وقال آخرون: هي لغة رديئة، ليست بالعالية، وأنكرها من المتقدمين يونس بن حبيب، وقال: لم أسمع أحدا من العرب يقول: ماء مالح .. وعدم سماعه ليس بحجة، وإنما هو مبلغه من العلم، فقد سمعها الثقاة ونقلوها ولكنهم يقولون: هي قليلة أو رديئة .. وبقي أن يقال: لأيّ معنى آثر الإمام الفصيح أو ما دونه على الأفصح؟
والجواب: أنه لا يلزم اختيار ما هو أفصح في الكلام ولا ما هو أفشى وأشهر، ولو لزم ذلك لضاع كثير من الكلام المنقول عن العرب، وفي القراءات القرآنية الصحيحة الثابتة ما وصفه النحاة واللغويون بالقلة والندرة والرداءة، بل ضعف بعضهم كثيرًا من القراءات التي نقلها الأئمة، وجعلوا كلام الشعراء الهائمين حجة على القراءة (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) .. ولما كان المقام مقام خطاب للعامّة وفي مسائل الفقه حَسُن أن يُختار ما هو شائع لدى العامة. وبدا لي فرق دقيق بين مِلْح ومالح، وهو أن الملح وصف ثابت كماء البحر، والمالح لما طرأت عليه الملوحة، كالفرق بين الصفة المشبهة، واسم الفاعل، ولهذا نظائر.
ـ[أبو خباب المكى]ــــــــ[22 - 11 - 08, 04:05 ص]ـ
كبَّه .. وزَقَفَه!!
من أبي عمّار المغامسي بالمدينة المنورة، وردني هذا السؤال: هل كلمة (كبَّ) التي نستعملها بمعنى سكب فصيحة؟ وهل قولنا: (زقفتُ الشيءَ) بمعنى أمسكتُ به بعد أن رُمي عليَّ، صحيح أيضًا؟ وما مفرد كلمة: (حليب)، (ذهب)، (هواء)؟
وأجيبُ على السؤالين الحسنين الأملحين بإيجاز، فأقول: الزّقفُ في لغة العرب: التلقّف، وهو بمعنى ما ذكرته سواءً سواءً، وفي الفائق في غريب الحديث للزمخشري: (يأخذ الله السموات والأرض يوم القيامة بيده، ثم يتزقفها تزقّف الرمّانة .. التزقف والتلقف أخوان، وهما الاستلاب والاختطاف بسرعة). وذكر آثارًا أخرى، والحديث مذكور في النهاية لابن الأثير، ولا يختلف أهل اللغة في صحة هذه اللفظة بمعناها المذكور سواء صح لفظ الحديث أم لم يصح.
كما لم يختلفوا في صحة كلمة (كبَّ) ومعناها كفأ وقلب، وفي تكملة المعاجم: (كبَّ: صبَّ، وسكبَ، وأَراق. وكبَّ القَدَحَ: أفرغ ما فيه). وهذه المعاني مردودة إلى ما ذكرته أمهات كتب اللغة، وهاتان اللفظتان (زقفه وكبّه) من روائع الكلم التي حفظتها قبائل الجنوب ونطقت به.
وأمّا السؤال عن مفرد كلمة الحليب، والذهب، والهواء، فجوابه: أنّ هذه الألفاظ وما شابهها، كلفظ: الماء، واللبن، والعسل، لا مفرد لها، بل هي من نوع الإفراد، واصطلح على تسميتها باسم الجنس الإفرادي، يُطلق اللفظ منها على القليل والكثير، فما يملأ الكأس يُسمّى ماء، وما ملئ به البحر هو ماء أيضًا، كالمصدر، يطلق على القليل والكثير، فضرب رجل سوطًا واحدًا كضرب رجل ألف سوط، كل ذلك ضرب، وإنّما لم يكن له مفرد لأنّه ليس له جزء يصدق على مسمّاه ينفصل وحده، كما تتميز التمرة عن التمر، وإنّما يتميّز بالقلة والكثرة، فقليل من الهواء هواء، وكثيره هواء، وبعض القليل هواء، وكلّه إذا جمعته هواء.
ولك شكري على ما أبديته من عنايتك بفصيح اللغة وصحيحها، وما سجلته من إعجابك الشديد، وثنائك على (لحن القول)، وإن كنا وأنتم وصالحُ المؤمنين لا نحمد لحنَ القول الذي جردَّنا أقلامنا لنبذه بالعراء بلا مراء.
ـ[أبو خباب المكى]ــــــــ[22 - 11 - 08, 04:07 ص]ـ
العَريس!!
العَروس: وصف يستوي فيه الرَّجل والمرأة ما داما في إعراسهما، وكذلك (العِرْس) للرجل والمرأة ولا يقال: عرسَة؛ لأنه وصف مشترك بينهما؛ لأن كلا من الزوجين ملازم للآخر، والعرب لم تضع فارقا بين الرجل والمرأة فيما يستويان فيه ولم يختص به أحدهما سواء طالت مدته كلفظ الزَّوج يسمّى به الرجل والمرأة من غير تاء فارقة، أو قصرت كالعروس، ولأنهما كالذات الواحدة فلا حاجة للتفريق، والسياق والحال وسائر القرائن اللفظية وغير اللفظية هي التي تعيّن أحد الزوجين الذكر والأنثى، ويجمع العروس إذا كان وصفا للرجل على عُرُس، فإذا كان وصفا للأنثى جمع على عرائس، والجمع يردّ الأشياء إلى أصلها .. ولم يُعجب ابنَ فارس نعتُ الرجل بالعَروس، وقال: إنه من زعمات الخليل بن أحمد، ورأى أن الأحسن أن يقال للرجل: مُعرِس، أي: اتخذ عروسا، وقد يقال للمرأة: عروسة كما يقال لها زوجة، ولكنه ليس من فصيح الكلم.
وأما العريس بالياء: فلم ينقل عن العرب، بل هو لفظ محدث اضطرّ إليه للتفريق بين الرجل والمرأة، وينزل الحكم في استعماله منزلة الضرورات تستعمل حين لا قرينة ثَمَّ ولا من لا يفهم القرينة؛ لأن مادتها وصيغتها موجودة في لسان العرب ولولا خشية التوسع في هذا لما كان في إدراجه في فصيح الاستعمال وصحيح الكلم من ضير، ويجمع العَريس على عِرسان، وأصل المعنى في مادته يعود على الملازمة والإقامة.
¥