تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وَبِهَذَا يمكنُ القولُ: إِنَّ اللَّحْن كَظاهرةٍ عَامَّة، دعا إلى وضعِ النَّحْوِ للوقايةِ منه، وإلحاقِ الفسادِ الدَّخيلِ على لغةِ العربِ بلغةِ أهلِهِ، وردِّ الشَّاذِّ عنها إليها، وهَذِهِ الظَّاهِرةُ العَامَّة جُعِلتْ في بعض الرّواياتِ السّببَ المباشرَ في وضع النَّحْو، وَمِنْ ذَلِكَ قولُ بنتِ أبي الأسودِ الدُّؤَلِيّ لَهُ، عندما دخلَ عليها في البصرةِ: «يَا أَبَتِ مَاأَشَدُّ الحَرِّ!» [14] ( http://www.hutteensc.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=64#_ftn14)، برفعِها كلمةَ "أَشَدُّ". فَظَنَّهَا تَسْأَلُهُ، وتستفهمُ مِنْهُ عَنْ أَيِّ زمانِ الحرِّ أشدّ؟ فقال: "شهر ناجر" [15] ( http://www.hutteensc.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=64#_ftn15)، فقالت: "يا أبتِ إِنَّمَا أخبرْتُكَ، وَلَمْ أَسْأَلْكَ"، فأتى أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ -عليه السّلام- فقال: "يا أميرَ المؤمنينَ، ذهبتْ لغةُ العربِ، لمّا خالطتِ العجم، وأوشك -إِنْ تَطَاوَلَ عَلَيْهَا زَمَانٌ- أَنْ تَضْمَحِلَّ"، فَقَالَ لَهُ: "وَمَا ذَلِكَ؟ "، فأخبره خبرَ ابنتِهٍِ، فأمره، فاشترى صحفاً بدرهمٍ، وأملّ عليه: «الكَلاَمُ كُلُّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ اِسْمٍ، وَفِعْلٍ، وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنَى» [16] ( http://www.hutteensc.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=64#_ftn16).

وَهَذِهِ الوَقَائِعُ عَلَى تَعَدُّدِهَا، واختلافِ الرِّواياتِ فيها، نماذجُ واضحةٌ لاتّساعِ اللَّحْن، وشمولِهِ جميعَ الطّبقاتِ، وتهديدِهِ سلامةَ اللُّغَة العَرَبِيَّة، حَتَّى أصبح هو الغالبَ المسيطرَ، في المدن والأماكن الَّتِي كانت ملتقى العرب والموالي، كالبصرة الَّتِي كانت منبتَ النَّحْو، ومهدَ طفولتِهِ المُبكِّرةِ، أواخر الخلافة الرّاشدة، وَأَوائل دولة بني أُمَيَّةَ الَّتِي قامت سنة إحدى وأربعين للهجرة [17] ( http://www.hutteensc.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=64#_ftn17).

وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ اللَّحْنِ كَانَ فِي القُرْآنِ الكَرِيْمِ؛ وَيُعَلِّلُ الرَّافِعِيّ سببَ ذَلِكَ، بقوله: «إِنَّ الأَلْسِنَةَ الضَّعِيْفَةَ القَاصِرَةَ لاَ تَستطيعُ الصُّعُودَ إِلَى مُستواه العالي في بلاغته، وعلوّ أسلوبه؛ والقرآنُ قد انطوى على أسرارٍ من سياسةِ الكلامِ، لا تتعلّقُ بها إلاّ الطّبيعةُ الكاملةُ، ولهَذَا كان أكثرُ اللَّحْن فيه، بَادِئَ بِدْءَ» [18] ( http://www.hutteensc.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=64#_ftn18).

وَيَرَى الدُّكْتُور شوقي ضيف: «أَنَّ كلَّ ذَلِكَ جعلَ الحاجة تمسُّ في وضوحٍ، إلى وضعِ رسومٍ يُعْرَفُ بها الصّوابُ من الخطأ في الكلام؛ خشيةَ دخول اللَّحْن وشيوعه، في تلاوة آيات الذّكر الحكيم» [19] ( http://www.hutteensc.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=64#_ftn19).

وَبِذَلِكَ يتبيّنُ أَنَّ أوّلَ ما وُضِعَ مِنَ النَّحْو، هو ما وقعَ اللَّحْن فيه، أو ما كان أقربَ إلى متناولِ الفكرِ في الاستنباطِ، ثُمَّ الاستقراءِ الدَّقِيق لِلنُّهوضِ برصدِ الظَّواهِر اللُّغَوِيَّةِ، وتسجيلِ الرّسومِ النَّحْوِيَّةِ تسجيلاً تطّرد فيه القواعدُ، وتنتظمُ الأقيسةُ انتظاماً يهيّئ لنشوء علم النَّحْو، ووضعِ قوانينه الجامعة المشتقّة من الاستقصاء المتأنّي للعبارات، والتَّرَاكِيب الفصيحة؛ ومن المعرفة التّامّة بخواصّها، وأوضاعها الإعرابيَّة [20] ( http://www.hutteensc.com/forum/newthread.php?do=newthread&f=64#_ftn20).

ويتجاوزُ الدُّكْتُور عَبْدُه الرّاجحيّ في كتابه "النَّحْو العربيّ والدَّرس الحديث"، اقتصارَ نشأةِ النَّحْو على محاربةِ اللَّحْن، ويؤكِّدُ على إرادةِ الفهم المنشودةِ مِنْ وراءِ نشأةِ هَذَا العلم الجليل الَّذِي ما انفكَّ عَنِ المعنى، منذُ بدايةِ نشأتِهِ الأولى، مروراً بمراحل نموِّهِ كلِّها، ويعلِّلُ ذَلِكَ بقوله: «إِنَّ اللَّحْن وَحْدَهُ، لا يفسّرُ نشأة النَّحْو، وخَاصَّة على أوّلِ صورةٍ وَصَلَ بها إلينا، وهي كتاب "سِيْبَوَيْهِ"، والأقرب عندي، أَنَّ النَّحْوَ -شأنَ العلومِ الإسلامِيَّةِ الأُخرى- نشأَ لفهمِ القرآنِ الكريمِ، والبونُ شاسعٌ بينَ محاربة اللَّحْن، وإرادة الفهم؛ لأَنَّ اللَّحْن ما كانَ يُفضِي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير