تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إنّه القرآن، كلام ربّك، تنزيلٌ من حكيم حميدٍ، حين يهزّك الحنين والشوقُ إلى التبتّل في محرابِ التدبّر والتفكّر مسبلاً دمعاتِ الندم والأسف واللهفةِ والإجلال، فتغدو معها مباهج الحياة ومغانيها أحقرَ من ذرّة رملٍ في فلاة أبيّةٍ على الإحاطة.

ما الدّنيا؟ ما أموالها؟ ما مفاتنها؟ ما مغانيها؟ ما ملاعبُها؟ ما حطامها الزائلُ؟ ما القصورُ ما الدورُ؟ إنّها لتغدو قاعاً صفصفاً أمام ترنيم العبدِ وتغنّيه بكلام ربّهِ، فتغشاه سكينةُ الصالحين وتعلوه وضاءةُ الذاكرين ويذكرهُ ملك الملوك فيمن عنده، فإذ بالدنيا ريشةٌ تتقاذفها أعاصير الثقة بوعد الله والأنس بنعيمه.

هذا الحديثُ أصلٌ في مسألةِ تحزيب القرآن، والتحزيبُ للقرآن أن يُجعلَ على أجزاءٍ متسقةٍ تقرأ ورداً متصلاً في مدةٍ معلومةٍ، والتحزيبُ من سنن الصالحينَ وطرائقِ المنيبينَ وهدْي المُخبتينَ، وهو دأبٌ درجَ عليه السالكون طريق العبوديّة فما قصّروا عن تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النّهارِ، فكان لكلٍّ منهم زمنهُ المعروفُ يختم فيه تلاوة القرآنِ على مدى حياتهِ، وما بدّلوا تبديلاً.

وقد فهم ذلك أوسُ بن حذيفة - رضي الله عنهُ - راوي الحديثِ، فقاس الغائبَ – وهم الصحابة – على الحاضر - وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلّم -، فأيقن أنهم على دربه في تجزيء القرآن وتحزيبه سائرون ولهديه في ذلك مقتفونَ، ولهذا بادر بسؤال أصحابِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّمَ عن تحزيبهم للقرآن حتى يستنَّ بهم ويهتدي بهديهم، فأخبروه أنهم يجعلون القرآن أحزاباً كل حزبٍ يشتملُ على عددٍ من السورِ التامّةِ.

وظاهر هذا الحديثِ، إذا قرنت إليه إرشاد النبي صلى الله عليه وسلّم لعبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – كما في الصحيح بقوله: "واقرأ القرآن في كل سبع ليال مرة" يقضي بأنَّ المعمولَ به لدى الصحابةِ – رضوان الله عليهم جميعاً - هو ختمُ القرآن في سبعة أيام، وأنَّ هذا هو مقتضى السنّة في ذلك.

وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية الكلام في موضوع تحزيب القرآن في مجموع الفتاوى، ولخّص مهمّاتِ الكلام عليها، ومن أهمِّ ما بيّنه الشيخُ في ذلك أنَّ طريقةَ الصحابةِ في تقسيم الأحزاب القرآنيّة كانت على السورِ التامة، فلم يكن الصحابة يحزّبون القرآن بحسب عددِ الأجزاءِ وأحزابها المعروفةِ في المصاحفِ الآن، فإن هذه وُضعتْ في زمن الحجاج بن يوسف بحسب عدِّ الآي والحروف ونحوها فيجعلون الحزب قدراً متسقاً من الحروف دون النظر إلى مطالع السور وخواتيمها أو الاعتبار للمعاني وتمامها، وأمّا الصحابةُ فإنهم كانوا يحزّبون القرآن بحسب السور التامة وهو ما يكونُ أعونَ على تدبّر كلام اللهِ تعالى إذ تتضمّن السورُ المعاني متصلة تامّةً فيستوفي القارئ للسور النظرَ في مجموع الآيات الواردة ويُحكمُ تدبّرها وفهمها دون أن ينقطع المعنى أو يقفَ على كلامٍ يتصلُ بما بعدهُ، فيفتتحون القراءة بما فتح الله به السور من المطالع العظيمة التي تأخذ بمجامع القلوب فتزلزلها هيبة وخضوعاً، ويختتمون بما ختم به من الخواتيم المحرّكة للأرواح.

وللاستزادة يُراجع كلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" فصل في "تحزيب القرآن" و"في كم يُقرأ" 13/ 405 وهو نفيس ومهم.

ثمَّ إن كان التحزيبُ في مدةٍ تصلُ إلى الشهر فإنَّ القارئ يحتاجُ إلى فصلِ بعض السور كسورةِ البقرة فحينئذٍ يفصلُ للحاجةِ إلى ذلك على أن يكونُ تحزيبُ السورةِ بالوقوفِ عند المعاني التامةِ المستوفاة فيجعل سورة البقرة حزبين وهكذا.

وذهب بعض السلف إلى تحزيب القرآن على أسباعٍ لا تُراعي خواتيم السور، كما روى ابن أبي داود عن قتادة أنه جعل القرآن أسباعاً ينتهي السبع الأول عند الآية 76 من النساء، والثاني عند الآية 36 من الأنفال .. إلخ ما رواه ابن أبي داود في كتاب "المصاحف" 1/ 466، ولا ريب أنَّ طريقة الصحابة أقوم وأصوب.

وقد كان من عاداتِ بعض السادات من أهل العلم أن يجعلوا ختم القرآن في يومي الاثنين والخميس حتى يوافق ذلك ارتفاع الأعمال وعرضها على الله تعالى، فمن أراد أن يختم في كل أسبوعٍ محزّباً القرآن على طريقةِ الصحابةِ رضي الله عنهم فإنَّ عليه أن يبدأ القراءة يوم الجمعة حتى يختم يوم الخميس فيصيب فضل ارتفاع العمل حال ختم القرآن العظيم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير