[الجانب المالي للفساد فى الأرض كما نستوحي من القرآن الكريم (موضوع مرشح)]
ـ[د. محي الدين غازي]ــــــــ[10 Sep 2010, 12:33 ص]ـ
إن القرآن الكريم قد وصم أعمالا وسلوكيات مختلفة بالفساد فى الأرض، والتأمل فى تكرارالكلمة فى مواضع كثيرة يحدو بنا أن نقول: إن كلمة الفساد فى الأرض كاد أن يكون مصطلحا قرآنيا له دلالالته وأبعاده وإيحاءاته.
وكلمة الفساد فى الأرض له دلالات قوية، فإن الأرض وضعت للأنام، وهي المأوى الوحيد لجميع الأنام إلى يوم القيامة، فإذا كان سلوك فرد أو جماعة يسيء إلى هذا المأوى أو يؤدي إلى خرابه فلا غرابة عقلا فى أن يقوم بحكم الفطرة جميع البشر ضده وللضرب على يديه، فالقرآن الكريم حينما يقرر لسلوك أنه الفساد فى الأرض فإنما يجعل المشكلة تخص كل البشر، ويجعل الموقف نفسه ينادي البشر أجمعهم إلى المبادرة لإيجاد حل مكافح لها، ولا يوجد من البشر من يعارض هذا النداء إلا من كان له مصلحة شخصية فى المشكلة نفسها.
ولما كانت الأرض مخزنا للموارد الطبيعية ومستودعا للثروات التي بها قيام الحياة ناسب أن يكون إساءة استخدام تلك الموارد والثروات من أبرز مظاهر الفساد فى الأرض، ولذلك يرى المتتبع لكلمات القرآن الكريم أن كلمة الفساد وإن كانت تشمل المساوئ كلها إلا أن الاستخدام القرآني للكلمة يدل على أن للكلمة صلة قوية بالانحراف الاقتصادي والجرائم المالية، لاسيما إن كانت كلمة الفساد مقرونة بالأرض.
ثم فى جانب آخر نجد تصريحات من علماء اللغة بأن كلمة الفساد تطلق أكثر ما تطلق على المدلول المالي. يقول الفيروزآبادي: والفساد أخذ المال ظلما، والمفسدة ضد المصلحة، وتفاسدوا قطعوا الأرحام [1] ( http://tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftn1). بينما نجد توضيحا أكثر فى تاج العروس حيث جاء: والفساد أخذ المال ظلما بغير حق، هكذا فسر مسلم البطين قوله تعالى: للذين لايريدون علوا فى الأرض ولافسادا [2] ( http://tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftn2).
خصوصية الفساد فى الأرض بجرائم مدين
إن صلة الكلمة بالجانب المالي تتضح جليا حين التأمل فى قصة مدين الواردة فى التنزيل الحكيم فى مواضع أربعة، في سورة الأعراف من آية 85 إلى آية 93 وفى سورة هود من آية 84 إلى آية 95 وفى سورة الشعراء من آية 176 إلى آية 190 وفى سورة العنكبوت فى الآيتين 36 و37. حيث إن كلمة الفساد فى الأرض وردت فى كل موضع من المواضع الأربعة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الصلة الوثيقة بين دلالة الفساد فى الأرض وبين جرائم القوم والتي كانت جرائم مالية، ولانرى مثل هذا الاطراد فى استخدام الكلمة فى أي أمة أخرى من الأمم التي ورد ذكرهم فى القرآن الكريم. وقد سمى انحرافهم المالي المتمثل فى عدم إيفائهم الكيل والميزان فى مواضع ثلاثة مقرونة بذكر الفساد في الأرض بينما فى سورة العنكبوت لم يسم الانحراف المالي بل اكتفى بذكر قوله "ولاتعثوا فى الأرض مفسدين". أي إن عنوان الانحراف الذي تورطوا فيه هو الفساد فى الأرض، كما أن عنوان الانحراف الذي وقعت فيه قوم لوط هو الفاحشة والإجرام.
إن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه قوم شعيب هو نقص المكيال والميزان، والنية من وراء النقص هو الحصول على مال الغير من غير رضى منه ولا مقابل يدفعه، ومن ثم الإخلال بثقة الناس فى الميزان الذي وضعها الرحمن رحمة بالعباد حتى تستقيم لهم الحياة، وقد اتفق العقلاء على أن الحياة قيامها المال، وأن العمران أساسه الميزان، فإذا كان الاعتداء على المال اختلت الحياة وإذا كان الإضرار بالميزان تضرر العمران.
ونبي الله شعيب عليه السلام هو الاسم الأول الذي ورد إلينا من خلال تاريخ موثق لإصلاح النظام المالي والاقتصادي، وذكر القرآن الكريم قصته مرارا وبتفصيل يدل على أن القصة تحمل فى طيها مساحة كبيرة للتأمل لمن يتطلع إلى الفوز بحكمة القرآن. وحقيق بمن يريد أن يتقدم بمشروع إصلاح النظام الاقتصادي أن يجعل مثال شعيب الحجر الأساس لكل محاولاته.
الحرية المطلقة تفتح أبوب الفساد
ومن تأمل فى الأزمات المالية المتتالية فى زماننا وجد أنها تعود إلى إعطاء رواد السوق حرية مطلقة من القيم الأخلاقية، وللعلامة أحمد رشيد رضا وقفة جميلة عند قصة مدين فى هذا الخصوص حيث قال:
¥