[اقرأ باسم ربك]
ـ[صلاح علي الزيات]ــــــــ[13 Aug 2010, 06:17 م]ـ
اقرأ باسم ربك (1)
دَفَعَهُ الطُّهر الذي انجَمَعَتْ عليه أضلاعُهُ، وأَنْهَزَهُ النَّقاءُ الذي سُقي به قلبُهُ حتى أُتْرِع، إلى عزلةٍ بدنية وشعوريةٍ، فكان ينزوي فيها عن أوْضَارِ الشرك ومظاهِرِهِ التي كانت تعجُّ بها فجاجُ مكة ونواحيها، فلا تَقَعُ عينُهُ على نَحَائِرَ أُرِيقَتْ دماؤُهَا على صفائِحِ الحَجَر تقرُّباً إلى الوهم، ولا على بيتِ الله وقد أمَّتْهُ أفواجُ العُراة والعرايا يطوفون به فريةً على الله تعالى.
أين يمكن أن يَنْتَبِذَ عن جاهلية الأرض وأرجاسها؟؛ ووقع اختياره على فم غار في أعلى شاهقٍ حول حرم مكة، وكأنما عَجِزَتْ رِحابُ وادي مكة الفسيحة عن استيعابِ ذلك القلبِ الكبيرِ، فخرج يَبْعَجُ ضِيْقَهَا ليُشْرِفَ عليها من رأس الجبل، فكان جبلَ ثور .. وكانت غارَ حراء، ليختلي في ظلمتِهِ متعبِّداً متحنِّثاً الليالي ذوات العَدَد.
ولطالما كنتُ أعجبُ وتعلُوني رهبةٌ إذا وقَعَتْ عيني على ذؤابةِ جبلِ ثورٍ: في علوُّها وشموخِها ووعُورَةِ مُرْتقاها وشَعَثِ أحجارِها وتفرُّقها، مُبَعْثرةً يَتَمَايلُ بها السَّراب تحت وَهَجِ أشعّةِ الشمس، وأقول في نفسي: فكيفَ إذا غَشَتْ ذلك الشَّعَثَ والسُّكونَ ظلمةُ الليل؟ وتَلَفَّعَتْ أوصالُ جبلِ ثورٍ بأسْمَالِ الظَّلام الحالِكِ في ليالي السِّرار .. يا لله .. من يصبر على خَلْوةٍ تمتدُّ إلى ثلاثين يوماً في هذا الموضع الموحش؟، ولقد استقرَّ في نفسي أنه لم يحرِّك رسولَ الله صل1 للفرارِ إلى هذا القَفْرِ إلا قلوباً كانتْ أشدَّ قَفْراً منه، ولا أصْبَرَهُ على ارتقاءِ هذه الحُزُون إلا نُفوساً كانت أشدَّ حُزُونةً منها!.
وهناك في ناحيةٍ من غارِ حراء، وفي شهر رمضان المبارك؛ لم يكن محمدصل1 على موعدٍ مع النبوةِ .. كلا، بل كانت الدُّنيا -بكل ما أشرقتْ عليه- على موعدٍ مع النور .. على موعدٍ مع السعادة ومع الهداية، لقد كانت الحياةُ –في ثنايا غارِ حراءٍ- على موعدٍ مع الحياة!!.
إنه الملك الكريم (جبريل عليه السلام) يقطعُ على النبيصل1 عزلَتَه، ويملأُ عليه خلوَتَه، فيَفْجَأُهُ دون مقدماتٍ ولا تحيّاتٍ: (إقرأ)!، ويجيبُهُ الذي ملأتْ السماحةُ أغوارَ روحه: (ما أنا بقارئ)!، هكذا .. دون اعتراضٍ ولا سؤالٍ ولا استنكاف، دَهَمَهُ بالسؤال فبادَرَ بالجواب، يعجزُ اليراعُ عن تصويرِ التواضع وهضم النفس بأبلَغَ من هكذا صورة.
وتهيأةً لاستقبالِ ثقل النبوةِ وشرفِ الرسالة؛ تكون فاتحةُ ذلك: أنْ يأخُذَهُ الملَك فيَغُطَّهُ ويَغُتَّهُ ويضْغَطَه ثلاثاً حتى يبلغ من ذلك الجسد -الذي أنحلَهُ التأمُّلُ- الجَهدَ، وفي كل مرةٍ يأمره بما يعلمُ اللهُ تعالى ويعلمُ كلُّ أحدٍ أنه لا يحسنه: (اقرأ)!، ليمضيَ قدرُ الله تعالى وتجريَ مشيئَتُهُ أن يكون ذلك النورَ من وحيِ الله بفصاحتهِ وبلاغتهِ وتراكيبهِ الأخَّاذَةِ، وما اشتمل عليه من التشريع الحكيم والهدى المستقيم، وما تضمَّنه من بحارِ علومٍ لم تزل البشرية تفجِّرُ ينابيعها لا تُنْزِفُهَا .. أن يكون ذلك كلَّه ممن أجاب قائلاً: (ما أنا بقارئ)!، ليبوح الحال قبل المقال بمصدر ذلك؛ وأنه من لدن حكيم خبير، وصدق الله: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)، (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا).
ليخرج النبيصل1 - بعد ذلك- من فم الغار عائداً إلى أهله ترجُفُ بَوَادْرُهُ ..
يخرجُ: ليَنْبَلِجَ بخروجه -من ظلمة الغار- نورٌ طبَّقَ ما بين الخافقين ..
يخرج من ضيق الغار: إلى عالم عجَّ بالفتن، ورَسَفَ تحت الأغلال؛ ليطلقه من قيوده ..
يخرج (ترجُفُ بوادره): ليَعْمُرَ النفوسَ الخائفةَ بِثَلَجِ الأمن وبَرْدِ الطمأنينة ..
وهكذا تمت نعمة الله تعالى على عباده، وكملت عليهم منته ..
ولقد كان لذلك الحدَثِ -الذي أفاضَ به جَوفُ حراءٍ- على الدنيا أعظمَ الأثر وأبلَغَهُ وأمْضَاه، فَبِهِ شعَّ النور، وولَّتْ جيوشُ الظلام والشرك مدبرةً لا تلوي على شيء، وفي اختيار الله تبارك وتعالى غارَ حراءٍ مكاناً، وشهر رمضان زماناً عبرةٌ تَشِي بمعنىً من معاني الربوبية والملك والتدبير التي تضمنها قول الله تبارك وتعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار).
وتأمل فيما دلَّ عليه كون فواتحِ آي القرآن التي استقبلها الكون وأوائلها؛ جاءت آمرةً بالقراءة مرَّتين؛ وممتنَّةً على الخلق بتعليم الله تعالى لهم مرَّتين؛ ومعتنية بالتنصيص على آلة الكتابة التاريخية: (القلم) ..
أيُّ ترسيخٍ لأهميةِ العلم ومكانته في هذه الشريعة الجديدة باحتْ به تلك الآياتُ البالغات ..
تلك الشريعة الجديدة التي نفضتْ عن الدنيا غبارَ الجهل، وصَقَلَتْ عقولَ البشر من غَبَشِ الشرك والضلالة والخُرَافَة ..
(قولي - بربّك - يا سُميّة:
مَن نحن لولا قِصّةٌ في الغارِ
ضجّت قبلها
وتفتّحت سُجُف السماء
(*)
هل نحن إلاّ أُمّةٌ
سهرت على كتف الظلام!
وتململت قَلقاً
تصفّق للمنامِ
ولا تنام!
هل نحن - لولا قصّة الغار الشريفةُ -
غير تاريخٍ قديم؟!
و قصائدٍ منثورةٍ
ما بين زمزم والحطيم؟!
هل نحن إلاّ بعضُ أسمالٍ قديمةْ!
ومفاخرٌ كانت سقيمةْ!
مَن نحن لو لم نرتوِ
من نهر من حضنت حليمة؟!) (2).
حواشي:
1 - العنوان وفكرة المقال مستوحاة من خطبة للدكتور عبد الوهاب الطريري يحفظه الله، وسبق أن نشرت المقال في موقع ملتقى السيرة النبوية.
2 - أبيات للشاعر سعود الصاعدي في قصيدته: (أوراق عربي من غار حراء)
¥