تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عندما يصبح إعجاز القرآن مصدراً للكسب

ـ[مرهف]ــــــــ[02 Sep 2010, 03:45 م]ـ

عندما يصبح إعجاز القرآن مصدراً للكسب

د. محمد سعيد رمضان البوطي

أستاذ بجامعة دمشق

ليس في الناس الذين عرفوا القرآن، فقرؤوه أو قرؤوا شيئاً منه، من لا يعلم أنه معجز، وليس فيهم من يجهل أن لإعجازه وجوهاً كثيرة، وأن إخباره ببعض الحقائق العلمية الثابتة التي لم تكن معروفة للناس من قبل، واحد من هذه الوجوه. وذلك مثل إخباره بأن ضياء الشمس منبثق من ذاتها، وأن نور القمر منعكس إليه من غيره، في مثل قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً) [يونس:5]. إذ المضيء في اللغة هو الشيء الذي ينبثق الضياء من داخله، والمنير هو الذي يتجه إليه الضياء من جرم آخر، فأنت تقول - فيما تقرره اللغة - غرفة منيرة ولا تقول غرفة مضيئة.

ولكن الشيء الذي لا يقبله عقل العقلاء أياً كانوا، مؤمنين أو جاحدين، أن يعمد أحدنا إلى آية من القرآن فيفرغها من دلالتها الظاهرة التي تنزلت بها، ثم يجعلها وعاء (قبلت اللغة العربية أم لم تقبل) لظنون علمية ربما ظهر فيما بعدُ بطلانها! ..

لقد غدت هذه الطريقة في إثبات الإعجاز العلمي للقرآن ذائعة شائعة، يتسابق إليها ذوو الأحلام التوسعية المتنوعة، وأُنشِئت لهؤلاء المتسابقين مؤسَّساتٌ، ورُسِمت لها ميزانيات، ورُتب لها مديرون وإدارات، وأحيط ذلك كلُّه بهالة من الدعايات.

فهل دعت هذه الطريقةُ الناس التائهين عن القرآن إلى الالتفات إليه والإقبال عليه؟ .. أم هل أورثت المجادلين بشأنه، المستخفّين بحقائقه انعطافاً إليه وإيماناً بربانيته ويقينياً بالوجوه الإعجازية (العلمية) التي تتوازع المتسابقين إدعاءآتُ السبقِ والاكتشافِ لها؟ ..

إنني على علم بأن هذه الطريقة لم تزد التائهين عنه إلا تيهاً وإعراضاً، ولم تزد المرتابين فيه إلا شكاً، بل إنها لم تنقلهم من الشك فيه إلا إلى الجحود به. بل إني لأخشى أن أقول: إن في المقبلين إلى كتاب الله هذا، والمستأنسين بخطابه وتعاليمه، من زجّتهم هذه الطريقة (الاحترافية)، إذ وثقوا بها فتابعوها، في حالة من الارتياب فيما كانوا مؤمنين به، وفي الإعراض عما كانوا مقبلين إليه! ..

ماذا تتوقع من حال إنسان له حظٌّ، قلَّ أو كثر، من الثقافة العامة والمحاكمة العقلانية للأمور، يسمع أو يقرأ ما يقوله أحد هؤلاء المسرعين إلى الفوز بالأسبقية، في اكتشاف المزيد من مظاهر (الإعجاز العلمي) في القرآن، عن إعجاز علمي باهر جديد اكتشفه في سورة يوسف، في قوله تعالى على لسان يوسف: (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً) [يوسف: 93]. إنه الإعجاز الذي يقرره العلم متمثلاً في الأثر الذي يتركه العَرَقُ المتصبّب من جسم الإنسان، في العين التي غاض عنها نورها فأصيبت بنوع من العمى، ونظراً إلى أن القرآن قد سبق علم العلماء بذلك، وقرر ذلك في هذا الذي قاله يوسف لإخوته، إذن فهو مظهر فريد من مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن، إذ إن القميص ليس هو الذي أعاد الرؤية إلى عيني يعقوب، عندما ألقي على وجهه، وإنما هو العرق الذي كان قد تشربه القميص من جسم يوسف! ..

إن الإنسان الذي سمع أو قرأ هذا الكلام لا بدّ أن يتساءل: في أي موسوعة علمية أو على لسان أي طبيب أو باحث علمي أو فيما يقرره أي عطار يتعامل مع فنون العطارة ومزايا الأعشاب، ثبت أن عرق الإنسان يحمل هذه الفائدة النموذجية المتميزة للعين العمياء؟ .. إنك مهما بحثت، لن تجد ما يؤيد هذه الأكذوبة الصلعاء .. ثم هب أن العرق له هذا التأثير السحري العجيب، فأي أثر منه يبقى على الثوب بعد اجتياز المسافات الطويلة بين مصر والبادية التي كان يقيم فيها يعقوب عليه الصلاة والسلام؟ على أن هذا الوهم الذي نسجه خيال أحد المتسابقين في هذا المضمار، إن افترضنا جَدَلاً صحته، فإنما هو عندئذ إعجاز ليوسف عليه الصلاة والسلام وليس إعجازاً للقرآن.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير