.. إلى أن قال-رحمه الله تعالى-: وثَمَّ نوع آخر موجود في غالب القطر ويكثر في بعض الجبال، وهو أن بعض المأمورين من بعض شيوخ الطوائف يأتون بثلة من أتباعهم، فينزلون على المنتمين إليهم من ضعفاء الناس، فيذبح لهم العناق إن كانت، ويستدين لشرائها إن لم تكن، ويفرغ المزواد، ويكنس لهم مافي البيت ويصبح معدماً فقيراً مَديناً، ويصبح من يومه صبيته يتضاغون، ويمسي أهل ذلك المسكين يطحنهم البؤس، ويميتهم الشقاء ميتات متعددة في اليوم.
وشر ما في هذا الشر أنه يرتكب باسم الدين ويحسبه الجهال أنه قربة لرب العالمين.
فأما إذا جاء وقت شد الرحال إلى الأحياء والأموات، وتقديم النذور والزيارات، فحّدث هنالك عن أنواع السرف والتكلفات والتضييع للحقوق والواجبات.
فيا ليت الذين تأتيهم تلك الوفود يسألونهم فرداً فرداً عن حالهم، ومن أين جاءوهم بما جاءوهم به من أموالهم، فعساهم أن يطلعوا على بؤس أولئك المساكين فترق لهم قلوبهم، ويرجعوا إليهم مالهم أو يزيدوهم من عندهم، وليقتصروا على من يجدونهم أهل قدرة على ما دفعوه لهم من أموالهم.
فهذه نصيحة إذا عملوا بها خففت من الشر والبؤس عن الزائرين، ومن الإثم واللوم عن المزورين.
فهل بها من عاملين؟
وفقنا الله والمسلمين".اهـ
---
(29) [اعتبار]
قال-رحمه الله-عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}:
"إن جهنم هي أقبح مستقر وأقبح مقام، وإن الدنيا هي مطية الآخرة، فمن ساء مستقره ومقامه في الدنيا ساء كذلك مستقره ومقامه في الآخرة.
وإن ملازمة العذاب في الآخرة على قدر ملازمة المعاصي في الدنيا، فمن لازمها بالكفر ومات عليه دامت له تلك الملازمة، ومن لازمها بالإصرار على الكبائركانت له على حسب ذلك الملازمة.
فعلى العاقل أن يحسن مقره ومقامه، وأن يجتنب كل موطن تلحقه فيه الملامة، وأن يجتنب مجالس السوء والبدعة، ويلازم مجالس الطاعة والسنة، وأن يسرع بالتوبة مفارقاً الذنوب، وألا يصر على شيء من القبائح والعيوب، وأن يكون سريع الرجوع إلى الله ولو عظم ذنبه وبلواه، فالله يحب التوابين ويغفر للأوابين.
جعلنا منهم أجمعين آمين".اهـ
---
(30) [رد واستدلال]
قال-رحمه الله-عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَغَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}:
"زعم قومٌ أنَّ أكمل أحوال العابد أن يعبد الله تعالى لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره!
وهذه الآية وغيرها ردٌّ قاطعٌ عليهم، ومثلها قول إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.في نصوص لا تُحصى كثرة.
وزعموا أنَّ كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه أو طمع في ثوابه!
وأخطأوا فيما زعموا فإنَّ مبناها الخضوع والذل والافتقار والشعور بالحاجة والاضطرار، وإظهار العبد هذه العبودية بأتمها، ومِن أتمِّ مظهرٍ لها أن يخاف ويطمع كما يذل ويخضع.
ففي إظهار كمال نقص العبودية القيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية، ولهذاكان الأنبياء -عليهم وآلهم الصلاة و السلام- وهم أشد الخَلق تعظيماً لله، أكثرهم خوفاً وتعوذاً من عذاب الله وسؤالاً لما عند الله! وكفى بهم حجة وقدوة.
وإن هذه المقالة تكاد تفضي إلى طرح الرجاء والخوف، وعليهما مبنى الأعمال لما فيهما من ظهور العبودية بالذل والاحتياج.
ومن دعاء القنوت الثابت المحفوظ: ((وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد)).
وهذا ضروري في الدين.
ولكن مثل هذه المقالة إنما يجر إليه الغلو وقلة الفقه في الدين في الكتاب والسنة وما كان عليه هدي السابقين الأولين".اهـ
---
(31) [رد مع بيان صفات عباد الرحمان]
قال-رحمه الله-عند قوله تعالى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}:
"وفي تعريف القرآن لعباد الرحمن بعد تعريفه بالرحمن تشريف كبير لهم، وتبكيت لأولئك المتجاهلين المتكبرين.
ووجه آخر في المناسبة، وهو أنه لما ذكر التذكر والشكر في الليل و النهار في الآية المتقدمة، ذكر صفات المتذكرين الشاكرين، وما أثمره لهم تذكرهم وشكرهم، ترغيبا في التذكر والشكر.
وقولهم للجاهلين سلاما من مقتضى هونهم ورفقهم، فلذلك قرن به وعطف عليه.
... إلى أن قال رحمه الله: يقول تعالى: وعباد الرحمن ومماليكه القائمون بحق العبودية له هم أهل الرفق والسهولة، الذين يمشون على الأرض هينين فيمشيتهم، وفي معالجتهم لشؤون الحياة، ومعاملتهم للناس لحلمهم وتواضعهم، غيرمستكبرين، ولا متجبرين، ولا ساعين في الأرض بالفساد.
وإذا خاطبهم السفهاء بما لا ينبغي من الخطاب قابلوهم بالحلم، وقالوا لهم: سلاماً؛ لأنهم سلموا من الجهل، فسلم المخاطب لهم من أن يجهلوا عليه ولوجهل، أو قالوا لهم من الكلام ما فيه سلامة من الأذى والمكروه".اهـ
¥