ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك".
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: أقسم -يحلف بالله- لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟
قال: ورائي أني قد سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني! واجعلوها لي، خلوا بين الرجل، وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب، فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فمُلْكُهُ ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
قالوا: سحرك، والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم) [عن السيرة النبوية، لابن هشام: 1/ 293].
وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، وكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فقال له: يا عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، لئلا تأتي محمداً فتعرض لما قاله،
فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً،
قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وكاره،
قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزها، وبقصيدها مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى،
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه،
قال: فدعني حتى أفكر فيه،
فقال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت (فَذَرني وَمَن خَلَقتُ وَحيدًا) الآيات كلها. [انظر: أسباب نزول القرآن - (ج 1 / ص 156)]
فإذا كان هذا الخضوع للقرآن يقع لهذين العتلّين، الصنديدين، من أئمة الكفر، وهم ينهون عنه، وينأون عنه، فكيف بأصحاب القلوب الرقيقة، والفطر السليمة؟
ولم يزل الناس حتى يومنا هذا يلحقهم لسماعه دهشة، وروعة، وإجلال، وانبهار، ولربما سمعه من لا يحسن العربية، فتأثر به، وميَّزه عن سائر الكلام، في قصص مشهورة. وذلك لما زينه الله به من الحلاوة، والطلاوة الظاهرة، فكيف بمن تدبره، وتفكر في معانيه، وتأمل آثاره.
وقد وردت كلمة (يعقلون) أو (تعقلون) ستاً وأربعين مرة. ووردت كلمة (يتفكرون) أو (تتفكرون) ثلاث عشرة مرة. ووردت كلمة (يتذكرون) و (تتذكرون) و (يذكرون) إحدى وعشرين مرة. وجاء الأمر بالتدبر، تصريحاً، وتلميحاً، في آيات بينات:
- كقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء/82]،
- وقوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) [المؤمنون/68]،
- وقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد/24]
وبإزاء هذا الحض والثناء على التدبر والمتدبرين، ذم وتسفيه للغافلين، المعرضين:
- كقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت/26]،
- وقوله: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) [الشعراء/5]،
- وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمد/16]، وأمثال هذا كثير.
إن في شهر رمضان، فرصة مثالية لتدبر القرآن، وبناء مفردات العقيدة في النفس، وصيانتها، وتقويمها. ولهذا كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - ينتهز هذه الفرصة،
كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) [متفق عليه].
وسنذكر في حديث قادم - إن شاء الله - بعض القواعد المعينة على تحقيق عبادة التدبر. والله المستعان، وعليه التكلان. [/ CENTE
المصدر:العقيدة والحياة ( http://www.al-aqidah.com/?aid=show&uid=bfyoppz8)