كالموازنة بين شعر النابغة وامرؤ القيس في وصف الليل وما يحمله من الحزن والهموم أو كنقائض الشعر الأموي أو الموازنة بين شعر البحتري وأبي تمام فإنّ الموازنة والمعارضة في جميع ذلك تقع على مستوى الألفاظ والتركيب والمعاني وغيرها ... أما أن يعارض بتكرار ألفاظ القرآن بمعان وأفكار مستقبحة أومعان القرآن الجليلة بألفاظ غريبة أو رديئة.فهذا لا يسمى معارضة بل تقليد على مستوى استعمال الألفاظ أو اقتباس على مستوى استعمال المعاني
وأذكر ها هنا نموذجين للمعارضات والموازنات بين بعض الشعراء حتى نعتمد نفس الطريقة في الحكم على من عارض القرآن وزعم أنّه أتى بما يماثله ــ زعمًا ــ
المثال الأوّل: بين النابغة وامرئ القيس:
يقول الأوّل:
كِليني لهمّّ يا أمَيمةُ ناصبِ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
تطاولَ حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ
وصدرٍ أراح الليلُ عازبَ همّه تضاعفَ فيه الحزنُ من كلّ جانبِ
يقول الأستاذ الدكتور شوقي ضيف معلقا على هذه الأبيات: ( ... فهو محزون في أوّل القصيدة يخاطب ابنته أمامة ويشكو لها همومه وأشجانه لما وقع في قبضة الغساسنة من أسرى قومه , ونراه يصور الليل وهمّه فيه تصويرا بديعا , فالكواكب بطيئة لا تجري , حتى ليظنّ أنّ الصبح الذي يرعى النجوم بأضوائه ويحصدها حصدا لن يؤوب , والليل يثقل على صدره بما يردّ عليه من موجات الهمّ والحزن , وهي براعة استهلال رائعة تدلّ دلالة بيّنة على أننا بإزاء شاعر يعرف كيف يجسّم معانيه وكيف يعبر عنها تعبيرا واضحا مستقيما بالصور .... )
ويقول امرؤ القيس في نفس الموضوع:
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلتُ له لما تمطّى بصلبه وأردفَ أعجازًا وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
فيالك من ليلٍ كأنّ نجومه بكلّ مُغارِ الفتلِ شُدّت بيذبُل
كأنّ الثُريا عُلّقت في مصامها بأمراس كَتّانٍ إلى صمِّ جندل
يقول الأستاذ شوقي ضيف: (فهو يتصور الليل بسواده وهمومه كأنه أمواج لا تنتهي , ويحس كأنه طال وأسرف في الطول حتى ليظنّ كأنّ نجومه شدّت بأسباب وأمراس من الجنادل والجبال فهي لا تتحرك ولا تزول و كأنّما سمّرت في مكانها , فهي لا تجري ولا تسير , وقد ردّد الشعراء بعده هذا المعنى طويلا ... )
وفي الموازنة بين الشاعرين وشعرهما يقول السحباني ما نصّه: (فقول النابغة متناه في الحسن، بليغ في وصف ما شكاه من همّه وطول ليله، ويقال إنّه لم يتبديء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام، خصوصاً قوله: «وصدر أراح الليلُ عازب همّه». وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة. إلاّ أنّ في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة، وحسن التشبيه، وإبداع المعاني، ما ليس في أبيات النابغة، إذ جعل لليل صلباً وأعجازاً وكلكلاً، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضاً، وجعل النجوم كأنّها مشدودة بحب الوثيقة، فهي راكدة لا تزول ولا تبرح، وجعل يتمنى تَصَرُّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرَّوْح، ثم ارتجع ما أعطى واستدرك ما كان قدّمه وأمضاه، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء ... إلى آخر ما في شعره من النكات.
فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة، فيقع بها الفضل [المفاضلة] بين الكلامين، من تقديم لأحدهما، أو تأخير، أو تسوية بينهما .... )
المثال الثاني: بين جرير وأبي نواس
يقول الأوّل: إذا غضِبتْ عليك بنو تميم حسبتَ الناسَ كلّهم غضابا
ويقول الثاني: ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالَم في واحد
انظر كيف جعل جرير من بني تميم الناس كلّهم حين يغضبون لشدّة هول هذا الغضب ووقع أثره على المغضوب عليه ثمّ انظر كيف زاد أبي نواس عليه زيادة رشيقة بديعة فهو لم يجمع الناس في قبيلة كما صنع جرير بل رجلٌ واحد يجمع عنده العالَم كلّه "فكان ما قاله أبلغ وأدخل في المدح والإعظام "
وننتقل الآن لسرد نماذج من المعارضات التي زعم أصحابها أنّهم تحدوا بها القرآن وأتوْا بمثله
أ - مسيلمة الكذاب: مسيلمة بن حبيب الكذّاب ادّعى النبوة باليمامة وزعم أنّ الله أشركه في الأمر مع محمد صلى الله عليه وسلم فجعل لكلّ منهما نصف الأمر ... ممّا عارض به القرآن وحاول محاكاته قوله:
¥