تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أ- نلاحظ أن حرف النون يمثل أكثر من نصف فواصل القرآن، حيث جاء فاصلة بنسبة 51% تقريباً، وهذه النتيجة تصديق لكلام سيبويه وغيره ممن لاحظوا ذلك، وإذا علمنا أن مجمل استعمال حرف النون في القرآن الكريم كله هو 27265، فإن نسبة استعماله فاصلة إلى نسبة استعماله الكلية تكون 11,67 % وهي نسبة عالية إذا قورن بحروف أخرى، أضف إلى ذلك أن التنوين الذي يلحق فواصل بعض السور كالإسراء والكهف ومريم … هذا التنوين هو نون ساكنة أيضاً وإن كان يتحول بالوقف إلى الألف الممدودة، وبذا فإن النون والتنوين يفوزان بأكبر نصيب في الفواصل لما فيهما من الغنة الجميلة في السمع، ويحق لنا بعد ذلك أن نقول إن عنصر الإيقاع والتنغيم والتطريب يقصد إليه في القرآن قصداً، وليس مجرد محسنات زخرفية.

ب- جاء حرف الميم تالياً للنون بنسبة 12,38%،يليه الراء بنسبة 11,04%والدال بنسبة 4,62% والملاحظ أن الميم حرف شفوي، والراء والدال من الحروف التي تنطق باعتماد اللسان مع الأسنان، وكل هذه الحروف تنطق من الجزء الأمامي لجهاز النطق، وهذا أمر ملاحظ في الفواصل، حيث نلاحظ أن حروف الحنجرة والحلق أقل استعمالاً من الحروف الشفوية والأسنانية، ولهذا كله علاقة بسهولة النطق والوضوح السمعي.

والمراد بالوضوح السمعي وصول صوت الحرف واضحاً إلى السمع، حيث إن لكل مجموعة حروف متقاربة المخارج نسبة وضوح سمعي، كما يقول الدكتور رمضان عبد التواب: "وليست كل الأصوات الإنسانية على السواء في نسبة الوضوح السمعي، فبعضها أوضح من بعض " (1)

ولحرص القرآن على الإيقاع اللفظي وتناسق الفواصل تُحذف بعض الحروف في الفاصلة مثل) والليل إذا يسر ((الفجر:4) وأصلها يسري، ولكن حذف الياء يساويها صوتياً بما سبقها وتلاها من الفواصل، وكثيراً ما تحذف ياء المتكلم في الفاصلة للغرض نفسه مثل) فاتقوا الله وأطيعونِ ((آل عمران:51) وأصلها أطيعوني.

وعلى العكس من ذلك قد يزيد القرآن حرفاً للغرض نفسه مثل) وتظنون بالله الظنونَا ((الأحزاب:10) وأصلها الظنون بدون ألف لأنها معرفة بالألف واللام، ولكن فواصل السورة أكثرها بحرف مد، فوافقتها، ومثل ذلك زيادة هاء السكت في) ياليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. ياليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه ((الحاقة:25 –29) وذلك لتتوافق الهاء إيقاعياً مع التاء المربوطة التي تصير هاءً بالوقف، بل إن القرآن قد يغير من بنية الكلمة لأجل الإيقاع كما في) وطور سينين ((التين:2) وهو نفسه طور سيناء المذكور في سورة المؤمنون، لكن فواصل السورة كلها نونية فغير بنية الكلمة لتتوافق الفواصل، ومثله) وقد خاب من دسّاها ((الشمس:10) وأصله دسّسها، ولكنه لا يتوافق مع فواصل السورة إلا بالصيغة المذكورة، وكل ذلك يؤكد حرص القرآن على إيقاع الألفاظ الذي جُبل الناس على حبه، هذا مع الحرص على جانب الدلالة أيضاً.

2 - التقديم والتأخير: وهو يحدث كثيراً في الفواصل القرآنية، وله بلاغته الخاصة وجماله وإيقاعه المؤثر، وهو في كلامنا عملية فنية معقدة تحتاج إلى خبرة عليا بفن القول، وترتبط بالمستويات العليا للغة، ويقول فيه العلامة عبد القاهر الجرجاني: هو باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية…" (2) ويدرسه المحدثون في نظرية النحو التحويلي تحت مصطلح " PERMUTATION"

والتقديم والتأخير عند العرب مرتبطان بفن القول، أي بالكلام ذي الطبيعة الفنية كالشعر والنثر الفني في ألوانه المتعددة، والضابط للتقديم والتأخير عندهم هو الإعراب الذي يحفظ لكل لفظ موقعه في بناء الجملة سواء ورد مقدماً أم مؤخراً، وفي جملة" ضرب عبد الله زيداً"يقول سيبويه: "فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول، وذلك قولك: ضرب زيداً عبد الله، لأنك إنما أردت به مقدماً ما أردت به مؤخراً، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه، وإن كان مؤخراً في اللفظ، فمن ثم كان حدّ اللفظ أن يكون مقدماً، وهو عربي جيد كثير، كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم " (3)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير