تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعدو إن يكون ترجيحا لأحد التفسيرين، وليس إبطالا لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله، وما لا مطمع في تأويله.

وفي قوله (وما يذكر إلا أولوا الألباب) إشعار بأن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه.

واحتج أصحاب الرأي الثاني، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة: بأن الظاهر أن يكون جملة (والراسخون) مستأنفة لتكون معادلا لجملة (فأما الذين في قلوبهم زيغ)، والتقدير: وأما الراسخون في العلم. وأجاب التفتازاني بأن المعادل لا يلزم أن يكون مذكورا، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه. واحتجوا أيضا بقوله تعالى (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) قال الفخر: لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة؛ إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة، وذكر الفخر حججا غير مستقيمة.

ولا يخفى أن أهل القول الأول لا يثبتون متشابها غير ما خفي المراد منه، وأن خفاء المراد متفاوت، وأن أهل القول الثاني يثبتون متشابها استأثر الله بعلمه، وهو أيضا متفاوت؛ لأن منه ما يقبل تأويلات قريبة، وهو مما ينبغي ألا يعد من المتشابه في اصطلاحهم، لكن صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سهل تأويلها مثل (فإنك بأعيننا) دل على أنهم يسدون باب التأويل في المتشابه، قال الشيخ ابن عطية "إن تأويل ما يمكن تأويله لا يعلم تأويله- على الاستيفاء - إلا الله تعالى فمن قال، من العلماء الحذاق: بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، فإنما أراد هذا النوع، وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال ".

وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى (والراسخون في العلم) انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابها: من آيات القرآن، ومن صحاح الأخبار، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فكان رأي فريق منهم الإيمان بها، على إبهامها وإجمالها، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى، وهذه طريقة سلف علمائنا، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلمين، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم، ويعبر عنها بطريقة السلف، ويقولون: طريقة السلف أسلم، أي أشد سلامة لهم من أن يتأولوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتسق مع ما شرعه للناس من الشرائع، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم، وانصرافهم عن التعمق في طلب التأويل.

وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعان من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز، واستعارة، وتمثيل، مع وجود الداعي إلى التأويل، وهو تعطش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلة القرآن والسنة، ويعبر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف، ويقولون: طريقة الخلف أعلم، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم لجدال الملحدين، والمقنع لمن يتطلبون الحقائق من المتعلمين، قد يصفونها بأنها أحكم أي أشد إحكاما؛ لأنها تقنع أصحاب الأغراض كلهم. وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسرين وعلماء الأصول، ولم اقف على تعيين أول من صدر عنه، وقد تعرض الشيخ ابن تيمية في العقيدة الحموية إلى رد هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل. والموصوف بأسلم وبأعلم الطريقة لا أهلها؛ فإن أهل الطريقتين من أئمة العلم، وممن سلموا في دينهم من الفتن.

وليس في وصف هذه الطريقة، بأنها أعلم أو أحكم، غضاضة من الطريقة الأولى؛ لأن العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي، وهديهم النبوي، وفيهم من لا يعير البحث عنها جانبا من همته، مثل سائر العامة. فلا جرم كان طي البحث عن تفصيلها أسلم للعموم، وكان تفصيلها بعد ذلك أعلم لمن جاء بعدهم، بحيث لو لم يؤولوها به لأوسعوا، للمتطلعين إلى بيانها، مجالا للشك أو الإلحاد. أو ضيق الصدر في الاعتقاد.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير