وإذا عُدنا إلى كلام ابن الصلاح المتقدم وجدناه نفسَه قد صرَّح بأَنَّه ليس معتزلياً مطلقاً، وأنه وافقهم في شيء وخالفهم في أشياء حيث يقول ( ... ثم هو ليس معتزلياً مطلقاً فإنه لا يوافقهم في جَميع أصولهم مثل خلق القرآن كما دل عليه تفسيره في قوله عز وجل: «ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث». وغير ذلك ويوافقهم في القدر، وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديماً». فمِن كلامه ما هو مُسَلَّمٌ مقبولٌ، ومنه ما هو تَحاملٌ ومبالغةٌ، فهو مردود.
فَنُسَلِّمُ له قوله عنه إِنَّه كان (يورد في تفسيره في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير، تفسير أهل السنة، وتفسير المعتزلة غير متعرض لبيان ما هو الحق منها». فالماوردي يعنى بعرض الأقوال في المسألة، ويجتهد في نسبة كل قول إلى قائله من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في -الكثير الغالب، وربما ترك نسبة بعضها. ومن الشطط أَن نُحمِّلَه تَبِعةَ كلِّ قولٍ قيل في المسألة، وبخاصةٍ حين يسنده إلى قائله، وقد أوضح في مقدمته أنه أراد من تفسيره أن يكون ( ... جامعاً بين أقاويل السلف والخلف، وموضحاً عن المؤتلف والمختلف ... )
وقد فهم ابن الصلاح هذا حين قال: «لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق أو باطل». غير أنه لم يعذره، ولم يرض بما ذهب إليه.
نعم، كان الأكمل أن يتعقب الأقوال بالتوجيه لها، والترجيح بينها، وقد فعل ذلك حيناً، وتركه حيناً آخر.
أما قول ابن الصلاح: «حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة، وما بنوه على أصولهم الفاسدة، ومن ذلك مصيره في الأعراف إلى أن الله لا لا يشاء عبادة الأوثان ... وقال في قوله تعالى:?وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن? [الأنعام 112]. وجهان في ?جعلنا?:
أحدهما: معناه حكمنا بأنهم أعداء.
والثاني: تركناهم على العداوة فلم نمنعهم منها».
فصحيحٌ أَنَّه ذَكَرَ أقوال المعتزلة، لكنَّ دلالةَ ذلك على اعتقادهِ بِها غيرُ قطعيةٍ، فهو لم يزد على أَنْ عَرَضَ القولَ وتَرَكه ولَم يُرجحه بشيء. وقد صرَّح في مقدمته – كما تقدمت الإشارة إلى ذلك –بأنه يريد أن يكون (جامعاً لأقوال السلف والخلف، وموضحاً عن المؤتلف والمختلف) وباستعراض تفسيره نجده يذكر القول لا لصحته، واعتقاده به، وإنما لأنه قد قيل. فربما تعقبه وربما تركه، ولقد كان الأولى في حقه أن لا يعرضه ويتركه، بل يتعقبه بإيضاح وتوجيه، أو على الأقل ينسبه لمن قاله به، حتى يسلم من تبعته.
أما قول ابن الصلاح: «وتفسيرهُ عظيمُ الضَّرَرِ (5) لكونهِ مشحوناً بتأويلات أهل الباطل، تلبيساً وتدسيساً على وجهٍ لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة، بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق». فهو قول مردودٌ وغُيرُ مُسلَّمٍ، وفيه تَحاملٌ ظاهرٌ على الماوردي، وعدمُ إنصافٍ لَهُ، ذلك أنَّ تفسيْرَهُ مليئٌ بتأويلات السَّلَفِ من الصحابة والتابعين، ومشاهير علماء المسلمين، منسوبةً لَهم بأسمائهم، مع ما نقله بِجانبِ ذلك من تأويلات الخَلَفِ، ومن بينها بعض تأويلات المعتزلة، والتي أراد من ذكرها بيان ما قيل في الآية من حق وباطل، ومن راجح ومرجوح. وهو في الغالب حين يذكر أقوال المعتزلة ينسبها إلى من قال بها من علمائهم كأبي علي الجُبَّائي، والأصمِّ، وعلي بن عيسى الرمانيِّ، وأبي مسلمٍ محمد بن بَحرٍ الأصفهانيِّ، والذي كثيراًً ما ينقلُ آرائه ويتعقبها بالنَّقدِ والردِّ، فلا لوم عليه بعد ذلك، إذا حكى أقوالَ المعتزلة مادام قد نَسبها.
فكيف يصحُّ من ابن الصلاح بعدَ هذا أن يصرفَ النظرَ عن كل ذلك، ويتصيَّد ما قد يكون ذكره الماوردي من أقوالهم التي أغفل نسبتها ليجعل منها دليلا على أنه معتزلي (6) أرد الإضرار بعقائد السَّوادِ من الناس فقصد بذلك التدليس والتلبيس! فرحم الله ابن الصلاح فلقد فاته الإنصاف.
مناقشة قول الدكتور عدنان زرزور:
¥