من هنا ينبثق المنهج الكامل للحياة المُثلى، القائم على حقيقة وحدانية الله وما تشيعه هذه الحقيقة في النفس من تصوُّرات ومشاعر وأحاسيس وأفكار واتجاهات. إنه منهج عبادة الله وحده، فلا توجُّه ولا ملاذ إلا إليه في حالتي الرغبة والرهبة، في السرَّاء والضرَّاء. إنه منهج العمل ابتغاء مرضاة الله والقرب منه، والتطلُّع للخلاص من الحواجز المعوِّقة والشوائب المضلِّلة عن طريقه، والسبيل الَّذي يربط بين قلب المؤمن وبين خلق الله برباط الحبِّ والأنس والتَّعاطف.
من أجل هذا كلِّه، ركَّزت الدعوة الإسلامية منذ بدايتها على إقرار حقيقة التوحيد عقيدةً في الجَنان، ومنهجاً للحياة، وتفسيراً للوجود عميق الارتباط بسائر فعاليَّات الإنسان
الحيُّ، القيُّوم:
قال تعالى: {الله لا إِلَهَ إِلاَّ هو الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ .. } (2 البقرة آية 255).
أمَّا الحي: فهو اتِّصافه عزَّ وجل بالحياة الأزلية الخالدة، الَّتي لا بداية لها ولا نهاية؛ فهي مطلقة مجرَّدة عن معنى الزمان الملازم لحياة الخلائق، ومنزَّهة عن الخصائص الَّتي ألِفها الناس في حياتهم.
وأمَّا القيُّوم: فيعني أن قيام كلِّ شيء في الوجود مرهون بإرادته عزَّوجل وتدبيره وقدرته، فهو وحده القائم بتصريف أمور عباده، يرعاهم ويحفظهم ويرزقهم، ويُوجد لهم أسباب سعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو المُحْكِمُ قبضته على هذا الوجود بكليَّاته وجزئيَّاته، قال تعالى: {إنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَواتِ والأَرضَ أنْ تَزُولا وَلَئِن زالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إنَّهُ كان حَلِيماً غَفُوراً} (35 فاطر آية 41). وحين يحاول الإنسان تصوُّر هذه الحقيقة، ويَسْبَحُ خياله متفكِّراً فيما لا يُحصى من الجزئيات المحيطة به ينتابه شعور الخشية والخشوع، عندما يكتشف أن أدقَّ ذرَّات هذا الكون مستمرة في حركة دؤوب متناهيةالدقَّة؛ ويستحيل استمرارها من غير دوام المراقبة والسيطرة الإلهيَّة عليها، وهذا ينطق بأنَّ الله عزَّ وجل لا تعتريه غفلة ولا يمكن أن تغلبه سِنة.
الأوَّل، الآخر، الباقي:
قال تعالى: {هو الأوَّلُ والآخِرُ ... } (57الحديد آية3).
وقال أيضاً: { ... كلُّ شيءٍ هالِكٌ إلا وَجْهَهُ ... } (28القصص آية 88).
وقال أيضاً: {كُلُّ مَن عليها فانٍ * وَيَبْقَى وَجهُ رَبِّكَ ذو الجَلالِ والإِكْرام} (55الرحمن آيه26 - 27).
إن وجود الله تعالى لا بداية له، فهو موجود منذ الأزل، لا أوَّل لوجوده كما أن وجوده غير مسبوق بعدم. ووجود الله ذاتي غير تبعي، وما من موجود إلا ويستمد وجوده من الله عزَّ وجل؛ ويتوقف وجوده على إرادته تعالى.
فالله موجود بدليل الشعور الفطري المستقر في نفس الإنسان، الَّذي يلجأ إلى الله إذا أصابه ضرٌّ ويسأله المعونة مهما كان إيمانه وقوَّة يقينه، قال تعالى: {وإذا مَسَّ الإنسانَ الضُّرُّ دعانا لجنبهِ أوقاعداً أو قائماً ... } (10يونس آيه12).
ومن أبسط الأدلَّة العقلية على وجود الله تعالى: قانون السببية، فلا بدَّ لكلِّ موجود من موجد، ولا يمكن أن ينتقل شيء من العدم إلى الوجود إلا بإيجادٍ وخالقٍ ومسببٍ للأسباب، قال تعالى: {وربُّكَ يخلُقُ مايشاء ويختار ... } (28 القصص آيه 68).
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ أنت الأوَّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء». (رواه مسلم).
العليم، المحيط:
قال تعالى: { .. واتَّقُوا الله واعْلَمُوا أنَّ الله بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} (2 البقرة آية 231).
وقال أيضاً: {ولله ما في السَّمَواتِ وما في الأَرضِ وكان الله بِكُلِّ شَيءٍ مُحِيطاً} (4 النساء آية 126).
من أسمائه تعالى العليم المحيط: أي الَّذي يحيط علمه بجميع الكائنات والعوالم، فهو صانعها ومُنْشِؤُها ولم تكن شيئاً مذكوراً. وهو الله الَّذي يعجز أي مخلوق ـ كائناً من كان ـ عن أن يستوعب بعضاً من علومه إلا في حدود الأسباب والإمكانات الَّتي يهيِّؤُها عزَّ وجل له. فمهما تطوَّرت علوم الإنسان وتقدمت فهي تدور في فلك الاكتشافات دون الخلق، وكلُّ ما يفعله لا يعدو كونه استقراءً واستنتاجاً لقوانين الله في الخلق. فإذا كان علماء الأرض قاطبة ـ منذ اكتشافاتهم الأولى وإلى يومنا هذا ـ لم يدركوا من علوم هذا الكون إلا النَّزْرَ اليسير، فأنَّى لهم أن
¥