تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يحيطوا بعلوم الله الَّتي يفوق الإلمام بها كلَّ تصوُّر وتقدير، وحتَّى لو أنهم اتَّخذوا من كلِّ أشجار الأرض أقلاماً، ومن بحارها مِدَاداً لوصفها وبيان عظمتها لنَفِد ذلك كلُّه قبل أن يفرغوا من رصدها وتدوينها؛ قال تعالى: {قُلْ لو كان البَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولوْ جِئْنَا بِمثْلهِ مَدَداً} (18 الكهف آية 109) وقال أيضاً: {ولوْ أنَّ ما في الأَرضِ مِنْ شَجرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ} (31 سورة لقمان آية27). فعلوم الله عزَّ وجل المتعلِّقة بما خلق من أكوان ومَجَرَّات وعوالم مختلفة، والتَّرابط القائم بين جميع المخلوقات، أوسع وأعقد من أن تحيط بهما عقول البشر فرادى ومجتمعين، وهم مدعوُّون بالتالي لدراستهما وتتبُّعهما والاستفادة منهما.

والله عزَّ وجل عالم بالظَّاهر والباطن، وعلمه شامل للماضي والحاضر والمستقبل يحيط بجميع الكائنات في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويشمل ما نعلمه وما نجهله؛ وأقرب مثال على شموليَّة علمه يبدو واضحاً في الإنسان نفسه، الَّذي هو من خلق الله، والَّذي استطاع بواسطة عقله أن يصل إلى مستوى رفيع من العلم والخبرة أَهَّله لأن يطلق قمراً صناعياً يرصد ما يجري تحت مساره، ويصوِّره بدقَّة شديدة، ثمَّ يعيد إرسال الصور إلى المحطات الأرضية وهي في غاية الوضوح، دون أن يغيب عنه شيء من تفاصيل هذه العملية المعقَّدة. فإذا كان الأمر بالنسبة للإنسان المخلوق ـ على ضعفه ـ كذلك، فما بالك بالنسبة للخالق العظيم الَّذي خلق المجرَّات بأعدادها اللامتناهية؟! فهل يعقل أن يغيب عنه شيء ممَّا خلق؟.

وقد شاءت الحكمة الإلهية، حين أسندت الخلافة في الأرض إلى الإنسان، أن تجعله يكتشف بالتدريج، وحسب تطوُّر علمه وإمكاناته، بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية الَّتي تُعينُه على القيام بأعباء خلافته، وتركت الباب أمامه مفتوحاً ليتعلَّم ويدرك المزيد، ويستفيد من ذلك كلِّه في إعمار الأرض وبناء حضارتها الإنسانية العامة. إننا في كلِّ يوم نكتشف شيئاً جديداً؛ نشعر حياله بالفرح والسرور، ولو كُشف لنا علم كلِّ شيء منذ بدء الخليقة لما كان للحياة أيُّ معنى من معاني التطوُّر والتقدُّم. ومع ذلك فإن قدراتنا بوصفنا بشراً تنحصر في عالم المادة؛ فلا نستطيع أن نخترق حجب عالم الغيب أو نفقه كنهه، لأنه علم لا يعلمه إلا علاَّم الغيوب.

فالغيب عالَمٌ رحب يحيط بنا من كلِّ جانب؛ فالذَّات الإلهية غيب ... وعالم الملائكة غيب ... وعالم الآخرة غيب ... ونحن نؤمن بهذا العالم، ونسلِّم بوجوده، وعلمنا به ينحصر فيما أُخبرنا عنه من طريق الوحي السماوي. ويبقى بالنسبة لنا غيباً ما دمنا في عالم المادة، فإذا ما انتقلنا إلى العالم الآخر فعندها يتحول الغيب إلى مشاهدة، والإخبار إلى يقين، ونستطيع أن ندركه إدراكاً تاماً وحقيقياً.

فالله عزَّ وجل هو العليم الَّذي يعلم الغيب والشهادة {وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلاَّ هُوَ .. } (6 الأنعام آية 59) إلا أنه أَطلع رسله ـ الَّذين اختارهم وأيَّدهم بالمعجزات ــ على بعض أسرار الغيب في الدنيا ليكونوا منارات علمٍ، وأعلام هداية للناس، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَداً * إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ .. } (72 الجن آية 26 - 27).

ومهما ارتقى البشر في علومهم ودرجاتهم؛ من رسل وأنبياء وعلماء وغيرهم؛ فلن تكون تلك العلوم إلا كمثقال ذرَّة من علوم الله، ولن يستطيع أحد منهم أن يعلم شيئاً ممَّا انفرد الله تعالى بعلمه كعلم الساعة، ووقت نزول المطر ومكانه ومقداره، وعلم كلِّ ما يكنُّ في الأرحام من أوصاف وطبائع وغير ذلك من خصوصيات كلِّ نفس، وعلم المستقبل، وعلم آجال الناس، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مفاتِح الغيب خمس لا يعلمهنَّ إلا الله، ثمَّ تلا: {إنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأرحامِ وما تَدْري نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وما تَدري نَفْسٌ بِأيِّ أرضٍ تَمُوتُ إنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (31 لقمان آية 34)».

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير