لاشكَّ أن من يعتقد بذلك يرتضي لمصيره أن يكون مساوياً لمصير الجمادات والحيوانات، خلافاً للمؤمن بالبعث والنُّشور، الَّذي يتناسب إيمانه مع الكرامة الإنسانية الَّتي ميَّزه تعالى بها في الحياة الدنيا ليكون أعظم كرامة في الآخرة.
فكلُّ شيء في هذا الكون يدلُّ على وجود الله الَّذي أقام التَّوازن والعدالة، وأحكم النُّظُم، وجعل لكلِّ أمرٍ وسيلة وغاية؛ فالحياة وسيلة لها بداية ونهاية، والغاية منها هي العمل الجادُّ من أجل الوصول إلى الحياة الطيِّبة والعيشة الراضية في الدنيا والآخرة، في كنف ربٍّ كريم قدير.
الرَّحمن، الرَّحيم:
قال الله تعالى: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمين * الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} (1 الفاتحة آية 2 - 3).
الرَّحمن الرَّحيم صفتان لله مشتقَّتان من الرَّحمة. ولكلٍّ منهما معنى معيَّن؛ فالرحمن صيغة مبالغة بمعنى عظيم الرحمة، وهو اسم عامٌّ يشمل جميع أنواع الرحمة الَّتي تعمُّ المؤمن والكافر وسائر المخلوقات، فقد روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله عزَّ وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأَخَّر تسعاً وتسعين إلى يوم القيامة».
أمَّا الرحيم: فيعني دائم الرحمة، وهو خاص بالمؤمنين، قال تعالى: {هو الَّذي يُصلِّي عليكم وملائِكَتُهُ ليُخرِجَكُم منَ الظُّلمَات إلى النُّور وكان بالمؤمنين رحيماً} (33 الأحزاب آية 43).
وهاتان الصفتان تقرَّان في النفس شعور السرور والأمل؛ فيتعادل الخوف والرَّجاء، والفزع والطمأنينة في سريرة المؤمن، فهو يدرك أن الله تعالى عظيم الرحمة دائم الإحسان، رؤوف بعباده؛ لا يترصَّد أخطاءهم وعثراتهم ليبطش بهم بل يراقبهم ويرعاهم، ولا يريد الشرَّ بهم بل يحبُّ لهم الخير، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الأهواء والجهالة بل يهديهم ويؤيِّدهم بفضله.
وأمَّا الجمع بين وصفَيْ الرحمن والرحيم ففيه معنى بديع، وهو أن (الرحمن) دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، و (الرحيم) دالٌّ على تعلقها بالمرحوم، وكأنَّ الأوَّل الوصف والثاني الفعل، فالأوَّل دالٌّ على أن الرحمة صفةُ ذاتٍ له سبحانه، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته؛ أي أنه صفة فعل له سبحانه؛ فقد كثر في القرآن الكريم وصف الله تعالى بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ولم يَرِد فيه بأن الله رحمن بالمؤمنين.
المَلِكُ، القُدُّوس، السَّلام، المؤمن، المهيمن:
قال الله تعالى: {هو الله الَّذي لا إله إلاَّ هوَ المَلِكُ القدُّوس السَّلام المؤمن المهيمن .. } (59 الحشر آية 23).
الله تعالى هو الملك بل ملك الملوك، والمالك الواحد، وملكِيَّته شاملة مطلقة لا حدود لها، وليس لبشر ملكيَّة أصيلة مطلقة يتصرف فيها بمحض إرادته، وإنما ملكيَّة معارة على سبيل الأمانة، خاضعة لشروط المالك الأصلي وتعليماته، فإذا تصرَّف المُعار تصرُّفاً مخالفاً لشرط المالك عرَّض نفسه للعقوبة، وأُخذت منه العاريَّة، وأُسندت لمن يستحقُّها.
وهذا يعني أن الإنسان مُستخلَف في الأرض على ملك ربِّه، وإيمانُه بأنه لا يملك من الأمر شيئاً كفيلٌ بأن يزرع في نفسه القناعة والرضا بما يحصِّلُ من الرزق، ويضفي على قلبه سكينة وطمأنينة تحفظانه من التعلُّق المُفْرط بعاريَّة مسترَدَّة عمَّا قريب.
وهو تعالى المالك لكلِّ مصادر الطاقة والقوَّة في هذا الكون، يُودعها حسب إرادته وتقديره، ويحجبها وفقاً لهذا التقدير، قال تعالى: {قُلِ اللَّهمَّ مَالِك المُلْك تؤْتِي المُلْكَ مَن تشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ ممَّنْ تشاء .. } (3 آل عمران آية 26).
أمَّا القدُّوس: فهو الطاهر من كلِّ عيب، المنزَّه عن كلِّ نقص. فهو اسمٌ يُشِعُّ بالقداسة المطلقة، ويلقي في ضمير المؤمن إشعاعاً يطهِّر قلبه ليصبح صالحاً لتلقِّي فيوض الملك القدُّوس، والتسبيح له والتقديس لجلاله. وقد ورد أن الملائكة تقول في تسبيحها: (سُبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكة والروح).
¥