تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إلا أن الكيان البشري ـ بطبيعة تركيبه ـ لا يقوى طويلاً على تلقِّي ذلك الفيض الغامر من النور، ولا يستشرف ذلك الأفق البعيد دون أن يَكِلَّ نظره ويرتدَّ طَرْفه حسيراً، لذلك نرى الآية القرآنية قد أوضحت هذا الأفق المترامي، ثمَّ عادت تقاربُ بين أبعاده، وتقرِّبه إلى الإدراك البشري المحدود في مَثَلٍ قريب محسوس؛ فتنتقل من آفاق السموات والأرض إلى المشكاة، وهي كوَّة صغيرة في الجدار غير نافذة من الخلف، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه وتوجِّهه باتِّجاه واحد، فيبدو قوياً باهراً. وهذا المصباح في زجاجة وهَّاجة تقيه العوامل الخارجية، وتصفِّي نوره، فيزداد تألُّقاً، وهي في ذاتها شفَّافة، رائعة، سنيَّة، منيرة. ثمَّ تربط الآية بين المثَل والحقيقة، بين النموذج والأصل، فترتقي من الزُّجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير، كي لا ينحصر التأمُّل في النموذج الصغير، الَّذي ذُكر لتقريب صورة الأصل الكبير فحسب، ومن المصباح إلى زيته الَّذي منه يقتات؛ إنه زيت الزيتون الَّذي أثمرته الشجرة المباركة المعمِّرة النافعة، وهو أصفى الزيوت، ونوره أبهى الأنوار، لأنه يتمتع بشفافية ذاتيَّة وإشراق ذاتي، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق. وتلك الشجرة المباركة تنتصب في مكانٍ، لا شرقيٍ ولا غربيٍ، فالشمس ترسل إليها النور، والحرارة تأتيها من كلِّ اتجاه، ولا تنحجب عنها طوال ساعات النهار.

وبذلك يتجلَّى لنا ذلك النور العميق الطليق؛ إنه نور مترادف متضاعف، اجتمعت على إطلاقه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم يبقَ شيء ممَّا يُقَوِّي النور ويزيده إشراقاً ويمدُّه إضاءة إلا وقد أسهم في إذكائه وتأجُّجه .. وكذلك هي براهين الله واضحة، مترابطة، يؤيِّد بعضها بعضاً؛ كالدلائل المعجزة وتتابع الرسل وإنزال الكتب، حتى لا يبقى في القلب مكان للشَّك أو الريبة في حقيقتها.

والله يهدي لنوره من يفتحون قلوبهم لتلقِّي هذا النور الفائض في السموات والأرض، والَّذي لا ينقطع ولا يحتبس ولا يخبو، فحيثما توجَّه إليه القلب رآه، وحيثما تطلَّع إليه الحائر هداه، وأنَّى اتَّصل به وجد ظلالاً من جلال الله تعالى وجماله. والمثل الَّذي ضربه الله لنوره ما هو إلا وسيلة لتقريبه إلى المدارك، فنور الله تعالى ينعكس ويتجلَّى في السموات والأرض والإنسان، وتظهر آثاره متميِّزة في الإنسان المؤمن أكثر ممَّا تظهر في السموات والأرض؛ وذلك لأن قلبه المنوَّر يصلُح لأن يكون موضع النظر الربَّاني، ويتشرَّف بأن يعمره ويسكنه الحبُّ الإلهي، وبهذه الميزة نال الكرامة عند الله دون سائر المخلوقات، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «لم يَسعْني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن اللّين الوادع». (رواه الإمام أحمد في الزهد، عن وهب بن منبِّه).

الهادي:

قال تعالى: { .. وكفى بربِّك هادياً ونصيراً} (25 الفرقان آية31).

وقال أيضاً: {ويزيد الله الَّذين اهتَدَوْا هدى .. } (19 مريم آية 76).

الهادي: هو الَّذي أعطى كلَّ شيء خلْقه ثمَّ هدى، فمنح كلَّ شيء صورته وشكله الَّذي يليق به ويطابق المنفعة المنوطة به، فأعطى العين الهيئة الَّتي تطابق الإبصار، وأعطى الأذن الشكل الَّذي يوافق الاستماع، ثمَّ هدى المخلوقات إلى طرق الانتفاع بالأشياء الَّتي خلقها لهم؛ إمَّا اختياراً كالإنسان، وإمَّا غريزة وطبعاً كالحيوان وغيره.

فالله هو الَّذي هدى النحلة إلى الزهور، وهدى الرياح إلى السحاب، وهدى الطير إلى الهواء، وهدى السمك إلى الماء، وهدى الأنعام إلى مراعيها ... أمَّا الإنسان فقد هداه إلى نوعين من الهداية؛ لكونه مخلوقاً عاقلاً ومفكِّراً، وخليفة لله في أرضه.

فالهداية الأولى: هداية مباشرة، وهي هداية الإنسان إلى طرق الانتفاع بما أودع في مخلوقاته، وبموجب هذه الهداية استطاع الإنسان ـ عن طريق العلم والعقل ـ أن يستخرج الأدوية والعقاقير النافعة من النبات، وتمكَّن من استخراج المعادن واستخدامها في شتَّى ميادين التصنيع. ولولا هذه الهداية الَّتي منحها الله للإنسان لما تمكَّن من الوصول إلى ما وصل إليه من التقدُّم والمدنية في خدمة مصالح البشرية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير