6 – ومن المعلومِ أيضًا عن الإمامِ عبدِ القاهرِ الجرجانيِّ أنَّه نحويٌّ بصريٌّ، فقد تتلمذَ على تلميذِ الإمامِ أبي عليّ الفارسيِّ، وهو أبو الحسين الفارسيُّ، أحدُ أئمةِ البصريينِ، بل لم يكن له شيخٌ له غيرُه، وقد شرحَ كتابَه ((الإيضاح)) واعتنى به عنايةً فائقةً، وسمَّاه ((المغني)) وقد بلغَ هذا السفرُ نحوًا من ثلاثينَ مجلدًا، ولكننا نلحظُ أنَّ مؤلِّفَ هذا الكتابِ لم ينقلْ عن أبي عليّ إلا في موضع واحدٍ فقط.
كما نجدُه ميّالاً إلى مذهبِ الكوفيين، فهو يقدِّمُ آراءَهم في كثيرٍ منَ الأحيانِ على آراءِ البصريينَ، ويعتدُّ بها، بل قد يكتفي بذكرها.
7 – هناك أمرٌ يَلفتُ انتباه المتتبعَ لهذا الكتابِ إذ نجدُ في موضعِ يقولُ: ((وفي الآيةِ دلالةٌ أنَّ صبرَ الخليفةِ على جناياتِ قومِه والتغافلَ عنها جائزٌ لابتغاءِ المصلحةِ، كمنابذتِه ومضاجرتِه إيّاهم، ولذلك يصبرُ خلفاءُ نبيِّنا ? من آل عباسٍ على قبائحَ هذه الأمَّةِ وافتراقِ أهوائِها)) وكذلك عند حديثِه عن قول الله تعالى: ? وأَمَرُوا بالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عنِ المُنْكَرِ ? بأنَّ المرادَ هو ((أمَّةُ محمدٍ عليه السلام، وقد اختصَّتْ بها الخلفاءُ الأربعةُ وبنو عمِّه الأئمةُ المهديُّونَ))، ولعلَّه يقصدُ به الخلفاءَ العباسيَّينَ، وفي هذا الكلامِ دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ مؤلفَ الكتابِ كان يميلُ لخلفاءِ بني عباس، على عكس ما ذُكر في سيرةِِ عبدِ القاهرِ الجرجانيِّ أنَّه كان يكره الحكامَ، ولا يميل إليهم, ويتبرّم منهم.
8 – أوردَ في كثيرٍ من المواضعِ ما يُخالفُ نظريَّةَ النظمِ التي ابتكرَها الجرجانيُّ، فنلاحظُ أنَّه في عددٍ من المواضعِ يقول: ((كذا لوَفقِ رؤوسِ الآيِ))، وهذا يتعارضُ مع نظريةِ النظمِ، إذ يقولُ في دلائلِ الإعجازِ: ((واعلمْ أنْ ليس النَّظم إلا أنْ تضعَ كلامَكَ الوضعَ الذي يقتضيه علمُ النَّحو، وتعملَ على قوانينِه وأصولِه)). فالتَّقديمُ والتَّأخيرُ، أو تغييرُ التَّركيبِ لوَفقِ رؤوسِ الآي لا يتَّفقُ مع قولِه: ((أنْ تضعَ كلامَكَ الوضعَ الذي يقتضيه علمُ النَّحو)).
وقد يُردُّ على ما سبقَ: أنّ عبدَ القاهرِ الجرجانيَّ ربَّما ألّفَ ((درج الدرر)) في أوّلِ حياتِه العلميةِ قبل أنْ تنضجَ لديهِ فكرةُ نظريَّةِ النظمِ، وكان هذا التفسيرُ بدايةَ طريقِه مع هذه النظريَّةِ، لما تضمَّنَ من أمورٍ بلاغيَّةٍ كثيرةٍ، تدلُّ على بذرةٍ جيّدةٍ لنظريةِ النظمِ، كما أنَّه لم يتتلمذ على أحدٍ سوى أبي الحسين الفارسيِّ، وكان هذا التتلمذُ متأخِّرًا، فقد كان في بداية حياتِه العلميةِ حنفيَّ المذهبِ والاعتقادِ، كوفيًّا نحويًّا، وبعد أنْ نضجَ وتتلمذَ على يدِ أبي الحسينِ الفارسيِّ، وقرأ كتبًا أخرى، جعلته يُغيِّرُ منهجَه الذي يسيرُ عليه إلى منهجٍ آخرَ مختلفٍ تمامًا، نظرًا لسعةِ اطّلاعِه، وسعةِ أفقِه ومداركِه.
9 – ومما تجدرُ الإشارةُ إليه أنَّ المؤلفَ أوردَ خلالَ حديثِه عن اسمِ اللهِ تعالى (البارئ) خلال تفسير الآية 24 من سورةِ الحشرِ يقول: ((وقد استوفينا الكلامَ في الأسماءِ في مفتاحِ الهدى))، وقد استبشرتُ خيرًا بهذا فقد ذُكر أنَّ للجرجانيِّ كتابًا هو المفتاحُ، فقلت: إنَّ ضالَّتي قد وُجدت، فبحثتُ عن الكتابِ، وبعد جهدٍ توصَّلت إلى كتابِ للجرجانيِّ اسمُه ((المفتاح في الصرف))، وبحثتُ فيه عن ذلك فلم أجد شيئًا يدلُّ على ما ذكرَه، ولو بالإشارةِ، فكان المفتاحُ في الصرفِ ليس له عَلاقةٌ في اشتقاقِ بأسماءِ اللهِ من قريبٍ ولا بعيدٍ، كما أنِّي لم أجدْ كتابًا بهذا الاسم فيما لديَّ من مصادرَ يَذكرُ كتابًا اسمه مفتاح الهدى، سواء للجرجاني أو غيره.
وخلالَ بحثي في الكتابِ عن شيءٍ يدلُّ على المؤلَِّفِ في محاولةٍ لمعرفةٍ المؤلِّفِ وجدتُ عبارةً مهمةً وهي: ((قال الأمير))، ولعلَّها من أهمِّ العباراتِ التي تشيرُ إلى المؤلِّفِ، إذ قد يكون الأميرُ هو مؤلِّفُ الكتابِ، إذ من المعتادِ في كتبِ القدماءِ أنْ يُذكرَ المؤلفُ باسمِه أو بلقبِه، لأنَّ كثيرًا منهم قد أملى كتابَه إملاءً على تلاميذِه، فقام هؤلاء التلاميذُ بذكرِ أسمائهم فيها، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ، منها: ((معاني القرآن)) للفراء، والذي تَرِدُ فيه عبارةُ ((قال الفراء)) أو ((حدثنا شيخنا)).
ونظرًا لأهميَّة هذه العبارة قمتُ بالبحثِ في المصادرِ عمَّن يُلقبُ بالأميرِ من العلماءِ الذين عاشوا في عصرِ المؤلِّفِ في القرنِ الخامسِ، فلم أجدْ سوى الأميرِ العالمِ ابنِ ماكولا، وهو سعد الملك أبو نصر عليّ بن هبة الله بن عليّ بن جعفر، صاحبُ كتابُ ((الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب)) المتوفَّى سنةَ نيّف وسبعين، أو نيّف وثمانين وأربع مئة للهجرةِ، فيكون كما ذكرت، من عصرِ عبدِ القاهرِ الجرجانيِّ، وهو العصرُ الذي رجحتُ أن يكونَ قد كُتبَ فيه الكتابُ.
ورغمَ أنَّ مصادرَ ترجمةِ ابنِ ماكولا ذكرت ((أنَّه كان نحويًّا مجوِّدًا وشاعرًا مبرِّزًا)) لكنِّي لم أقفْ في مصادرِ ترجمتِه على تآليفَ في التفسيرِ، فلم تذكر أنَّه كان له تفسيرٌ أو حتى تفسير سورة واحدة.
كما أنَّه ممَّا يظهرُ من هذا التفسيرِ والأحاديثِ الواردةِ فيها أنَّ صاحبَ التفسيرِ هذا لم تكنْ لديه اهتماماتُ المحدِّثينَ في ضبطِ الأحاديثِ وأسانيدِها والحكمِ عليها، بل نجدُه يستشهدُ بأحاديثَ ضيعفةٍ جدًّا بل موضوعةٍ، وكذلك يهتمَّ بالإسرائيلياتِ والتاريخِ، مما يدفع كونَ مؤلَّفَ الكتابِ هو من أهلِ الحديثِ كما هو معروفٌ عن ابن ماكولا، ودقتِه واحترافِه لهذا الفنِّ، وبخاصَّةٍ أنَّه ألّّف كتابًا في نقد الرجالِ وتاريخِهم وهو كتابُ ((الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب)).
وخلاصة القول: إنَّ كتابَ ((درج الدرر في تفسير القرآن العظيم)) وحسب ما ترجح لديَّ، والله أعلمُ، أنَّ الكتابَ ليس لعبد القاهر الجرجاني، بل هو لغيره، ولم أستطع نسبتَه لغيره، إذ لم توجد علاماتٌ دالّةٌ على ذلك، فهو، في رأيي المتواضع، منسوبٌ له، ويبقى كذلك حتى يتبيّن لي أو لأحدٍ غيري مؤلِّفُ الكتابِ.