3 – أما بروكلمان فقد ذكر أنَّ التفسيرَ يُنسبُ خطأً للشريفِ الجرجانيِّ، فقال: ((درجُ الدررِ وهو في التفسيرِ ... ويُنسبُ خطأً للشريفِ الجرجانيِّ)) وعبارتُه هذه تحملُ ادعاءً لأحدِهم يَنسبُ الكتابَ لغيرِ عبدِ القاهرِ الجرجانيِّ، وهي في الوقت نفسِه نفت هذا الخطأ. كما أنَّه بعيد أنْ يكونَ له إذ خلا الكتابُ في نقلِه عن علماءَ منَ العصورِ التي بعدَ عبد القاهر الجرجانيّ، ممّا يجعلُ النسبةَ إليه من بابِ الوهمِ، فالشريفُ الجرجانيُّ قد تُوفيَ سنة 816 هـ، كما أنَّه لم ينقلْ منَ المؤلفاتِ في التفسيرِ أو غيره بعد عصرِ الجرجانيِّ، وبخاصَّةٍ الزمخشريِّ وأبي حيانَ وغيرهما منَ الأعلامِ الذين جاؤوا بعده.
وقد رجعتُ إلى مظانِّ ترجمةِ السيدِ الشريفِ الجرجانيِّ، فلم أجدْ ذِكرًا لهذه النسبةِ.
4 – المعروفُ عن عبدِ القاهرِ الجرجانيِّ وما ذكرتُه كتبُ التراجمِ التي ترجمتْ له: أنَّه شافعيُّ المذهبِ، فقد ذكره الإسنويُّ في طبقاتِ الشافعيَّةِ، وقال عنه: ((كانَ
شافعيًّا))، وكذلك في سير أعلام النبلاء، وغيرها.
وقد بحثتُ في مذهبِ المؤلِّفِ الفقهيِّ من خلالِ دراستي لهذا الكتابِ، وقد تولَّدَ لديَّ أنَّ صاحبَ هذا الكتابِ له مذهبٌ فقهيٌّ هو المذهبُ الحنفيُّ، وذلك من خلالِ المسائلِ التي ذكرتُها في مبحثِ (عنايتِه بالأحكامِ الفقهيَّةِ) فدرستُ مذهبَه الفقهيّ من خلالِ ثماني مسائلَ، هذه المسائلُ الثمانِي خالفَ فيها المؤلفُ المذهبَ الشافعيَّ أو الرأيَ الراجحَ في المذهبِ الشافعيِّ، ووافقَ فيها أصحابَ المذهبِ الحنفيِّ بل المشهورَ في المذهبِ الحنفيِّ، وأحيانًا يصرِّحُ بمخالفتِه للشافعيِّ.
أضفْ إلى ذلكَ أنَّه يذكرُ الإمامَ أبا حنيفةَ فيترضَّى عنه أو يترحَّم عليه في أكثرَ من موضعٍ، ويستشهد بقولِه كذلك، بل إنَّه يروي عنه بعضَ الأحاديثِ والآثارِ على الرغمِ من وجودِها عند غيرِه، فيختارُ طريقَ أبي حنيفةَ.
5 – من المعلومِ عن عبد القاهر الجرجانيِّ أنَّه أشعريُّ المذهبِ عقائديًّا، وهذا ما ذكرتْه كتبُ التراجمِ التي ترجمتْ له.
ولكن عند الدراسةِ في عقيدتِه في هذا الكتابِ يتبيَّنُ أنَّ مؤلفَ الكتابِ ليس أشعريَّ المذهبِ، فهو ينهجُ منهجَ الإمامِ أبي حنيفةَ النعمانِ في بعضِ المسائلِ العقديةِ التي ذكرها في تفسيرِه، ومن هذه المسائل:
أ – قوله بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقد جاء في تفسيره قول الله تعالى: ((إن الذين يكفرون بالله ورسله)) [النساء:150] إذ يقول: ((وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينقصُ))، وهذا القول يقولُ به الإمامُ أبو حنيفةَ رحمه الله تعالى ومَن وافقَه مِن بعدِه فقد جاء في شرح المقاصد ما نصّه: ((وعند أبي حنيفة (رحمه الله) وأصحابِه وكثيرٍ من العلماءِ، وهو اختيارُ إمامِ الحرمين، أنه لا يزيدُ ولا ينقصُ، لأنَّه اسمٌ للتصديقِ البالغِ حد الجزمِ والإذعانِ، ولا يتصوَّرُ فيه الزيادةُ والنقصانُ)).
ب – وعند تفسيرِه قولَ اللهِ تعالى: ((ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم)) [البقرة:115]، يقول: ((و (وجهُ الله) ليس كأوجهِ خلقِه، وهو خالقُ الوجوهِ، متعالٍ عن الحلولِ في الجهاتِ والأقطارِ، وهو أقربُ من حبلِ الوريدِ، سبحانه وتعالى. وقد أوّلَ مَن أوّلَ مِن أصحابِنا بأنَّه الإقبالُ بالرحمةِ والرضوانِ والقبولِ، وهو ممكنٌ أنْ يكون مُرادًا)).
ج – كذلك عند تفسيرِه قولَ اللهِ تعالى: ((هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك)) [الأنعام:158] يقول: ((دليلٌ أنَّ إتيانَ الربِّ صفةٌ له لا يجوزُ حملُها على إتيانِ الأمرِ، إذ الشيءُ لا يُعطفُ على نفسِه)).
د – أمَّا عن صفةِ الكلامِ فيقول: ((والتكليمُ صفةٌ للهِ تعالى حقيقيةٌ من غيرِ كيفيَّةٍ)) وذلك عند تفسيرِه قولَ اللهِ تعالى: ((وكلم الله موسى تكليمًا)) [النساء:164]، وأيضًا يقولُ في موضعٍ آخرَ: ((وقولُ اللهِ تعالى حقيقة، وقد أُكِّدَ بقولِه: ((وكلم الله موسى تكليمًا)) [النساء: 164]، والتأكيدُ لنفي إيهامِ الاستعارةِ، وفي فحوَى قوله: ((وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا))، الآية [الشورى: 51] ما يدلُّ على أنَّ القولَ صفتُه حقيقةً)).
¥