كثيراً ما تستوقف المرء آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن شواهد القدرة الإلهية في الآفاق والأنفس، ولقد استوقفني كثيراً منهج القرآن في اختيار تلك الآيات وأسلوب عرضها وتوظيفها في الغرض الذي سيقت له. لقد تميز المنهج القرآني بسمات عديدة، هي جديرة بالعناية من المشتغلين بالدراسات القرآنية، تدبراً وتأصيلاً، لاستنباط المنهج القرآني في عرض تلك الآيات الكونية، ذلك أن حديث القرآن عنها أخذ جزءاً غير قليل، وفي ظني ـ وبلا مبالغة ـ فإن الباحث في الدراسات القرآنية يمكن أن يقدم في ذلك رسالة علمية كاملة ورصينة. ويمكن تقسيم تلك السمات على ثلاثة أقسام رئيسة:
القسم الأول: سمات تتعلق بذات الأمر الكوني (الظاهرة الكونية) فهي سمة لتلك الآية الكونية التي تحدث عنها القرآن وأشار إليها.
القسم الثاني: سمات تتعلق بطريقة القرآن الكريم في عرضها وأسلوب ذكرها وإيرادها.
القسم الثالث: سمات تتعلق بالغرض والغاية الذي سيقت لأجله تلك الظواهر الكونية.
ويمكن أن نوجز هذه الأقسام بعبارة مختصرة: الدليل، والأسلوب، والغاية. وتصور هذه الأقسام الثلاثة، يفتح أفقاً واسعاً في الدراسة والنظر.
وأعتذر إلى القارئ الكريم عما سيلاحظه من نوع إجمال أو اختصار شديد، إذ المقصود لفت النظر إلى هذا الموضوع العلمي، لعل الله تعالى ييسر من يتولى هذا بشكل أوسع.
السمة الأولى:
من أبرز السمات التي تميز الآيات الكونية المشار إليها في القرآن الكريم؛ أنها منتزعة من البيئة المعاشة، والفضاء المحيط بنا، فالأرض بجبالها وسهولها ونباتها وحيوانها وبرها وبحرها، أمور محسوسة مدركة، وهذه سمة سارية في كل الآيات الكونية في القرآن الكريم، وهي بهذا تتميز بعدد من الأمور، منها:
* أنها لما كانت منتزعة من البيئة؛ فهذا يجعل الناس جميعا يستوون في الشعور بها والإحساس بوجودها بلا تميز، فصاحب القصر الكبير في المدينة، والخيمة الصغيرة في البدو، يستويان في الإحساس بها، والعالم والأمي يستويان، فمن منا لم يشاهد السماء أو النبات أو حتى الجمال، بل إن هذه الآيات الكونية بين جوانحنا نحن، ولذا قال تعالى يلفت نظر عباده لهذه الحقيقة ?وفي أنفسكم أفلا تبصرون?.
* وكونها منتزعة من البيئة المعاشة؛ يجعلها سهلة الإدراك، لا تحتاج إلى أدوات علمية ولا إلى تقنية عصرية، فنظرك إلى السماء وما فيها أو الأرض وما عليها، لا تحتاج معه ـ مثلاً ـ إلى مجهر مخبري، أو مكبر فضائي بل يكفيك الوسائل الفطرية التي ركبت فيك لتدرك بها هذه الآيات.
* وهذا يجعل الحجة ـأيضا ـ تقوم على الخلق جميعا؛ لأنهم يستوون في ملكات الإدراك والفهم لها.
* ولأنها منتزعة من الواقع، فهذا يجعلها تكرر بصفة مستمرة، تعايشها النفس، ويتملاها العقل.
السمة الثانية:
ومن السمات السارية في الآيات الكونية التي ذكرها القرآن الكريم، أنها متنوعة الأشكال متعددة الأنواع، فمن السماء بأفلاكها ونجومها وما فيها من مظاهر العظمة والروعة، إلى الأرض بسهولها وجبالها، والبحر بموجه وأحيائه، وهذا التنوع في الآيات الكونية والتعدد يحقق عدداً من الأهداف:
* منها انتفاء الملل والسأم لتعدد وتنوع ما يذكر من الظواهر الكونية، فمرة تحلق بنا الآيات إلى فضاءات الأفلاك والعوالم العلوية، ثم ما تلبث أن تحط بنا إلى جبال الأرض وتنحدر بنا إلى سهولها ثم تخوض بنا لجج البحر لتغوص بنا أعماقه وتنتهي بنا إلى قيعانه، في تنوع أخآذ يملك الحس والشعور.
* ومنها الاستحواذ على اهتمام الناس بمختلف مشاربهم وشتى اهتمامهم، إذ الناس مختلفون فيما يستوقفهم ويسترعي انتباههم، فالفلاح – مثلاً- ربما استوقفه ولفت نظره ما لا يستوقف البحار وهو على ظهر سفينته، أو البدوي وهو يرعى غنمه وإبله في الصحراء، وكذا الحال في العالم والتاجر والصانع.
السمة الثالثة:
¥