الآية نزلت في عذاب القبر. وقد جاء هذا مبينًا في أحاديث صحاح؛ فمنها ما روي عن أبي هريرة من أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ}. قال: إذا قيل له في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاء بالبينات من عند الله، فآمنت وصدقت. فيقال له: صدقت على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث).
وقوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}، الذين لم يتمسكوا بحجة ولا برهان في دينهم؛ وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم؛ كما قلد المشركون آباءهم، فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف:22). فهؤلاء يضلهم الله تعالى بظلمهم، وبعدهم عن النور الهادي، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات، واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى، لا من اختيار الله .. يضلهم وفق سنته، التي تنتهي بمن يظلم ويعمى عن النور، ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود.
والمراد بـ {الظالمين} الكفرة المشركين، بدليل مقابلتهم بـ {الذين آمنوا}، ووصفهم بالظلم إما باعتبار ظلمهم لأنفسهم؛ حيث بدلوا فطرة الله تعالى، التي فطر الناس عليها، فلم يهتدوا إلى القول الثابت، أو باعتبار أنهم قلدوا أهل الضلال وأعرضوا عن البينات الواضحة. وإضلالهم في الدنيا- على ما قال الزمخشري- أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن، وتزل أقدامهم أول شيء، وهم في الآخرة أضل وأزل .. واخرج ابن جرير وابن أبي حاتم البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن الكافر إذا حضره الموت، تنزل عليه الملائكة عليهم السلام، يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره أُقعِد، فقيل له: من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئًا، وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له: من الرسول الذي بعث إليكم؟ لم يهتد له، ولم يرجع إليهم شيئًا؛ فذلك قوله تعالى: {يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}.
{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء}. أي: يفعل ما توجبه الحكمة؛ لأن مشيئة الله تعالى تابعة للحكمة من تثبيت الذين آمنوا، وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم، وبين شأنهم عند زللهم.
وفي إظهار الاسم الجليل {اللَّهُ} في الموضعين من الفخامة، وتربية المهابة ما لا يخفى، مع ما فيه - كما قيل- من الإيذان بالتفاوت في مباديء التثبيت، والإضلال؛ فان مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر. وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها.
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات. وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء، والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة، تحتوي دائماً على الحقيقة الكبرى .. حقيقة الرسالة الواحدة، التي لا تتبدل، وحقيقة الدعوة الواحدة، التي لا تتغير، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار.
الجمعة، 18 آذار، 2005 محمد إسماعيل عتوك
ـ[أبومجاهدالعبيدي]ــــــــ[18 Mar 2005, 11:18 م]ـ
جزاك الله خيراً أخي عبدالرحمن
وجزى الله الأستاذ أبا الهيثم محمد إسماعيل عتوك خيراً كذلك
ولي عودة إن شاء الله بعد دراسة ما ذكرتماه.