تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مكان تستقر فيه، وأن يكون لها استقرار في المكان. فان القرار يراد به مكان الاستقرار؛ كما قال تعالى في صفة جهنم: {َجهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم:29)، وقال: {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء} (غافر:64). ويقال: فلان ما له قرار. أي: ثبات. وقد فسر القرار في الآية بهذا وهذا. ويقال: قرَّ الشيء قرارًا؛ كقولك: ثبت ثباتًا. قال الزمخشري: (شبِّه بها القول، الذي لم يعضَّد بحجة فهو داحض غير ثابت. والذي لا يبقى؛ إنما يضمحل عن قريب لبطلانه؛ من قولهم: الباطل لجلج .. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقرًّا، ولا في السماء مصعدًا، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة).

وقرىء: {ومثلَ} بالنصب عطفًا على {كَلِمَةً طَيِّبَةً}. وقرأ أُبَيُّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً خَبيثةً كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}. ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة، للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان؛ وإنما ذلك أمر ظاهر، يعرفه كل أحد.

هذا هو مثل الكلمة الطيبة، ومثل الكلمة الخبيثة. وليس هذا وذاك مجرد مثل يضرب، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع؛ وإنما هو الواقع في الحياة، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان .. والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي، مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق. والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به، فقلما يوجد الشر خالصًا، وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير، فلا تبقى فيه منه بقية، فإنه يتهالك، ويتهشم مهما تضخم واستطال.

ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين: أصحاب الكلمة الطيبة، وأصحاب الكلمة الخبيثة، فبين سبحانه أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة، وأنه يضل الظالمين عن القول الثابت. فيضل هؤلاء بعدله لظلمهم، ويثبت الذين آمنوا بفضله لإيمانهم؛ وذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}.

أي: يُدِيْمُهم على القول الثابت في الدنيا والآخرة، ويمنعهم من الزلل .. وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله طرفة عين؛ فإن لم يثبته، وإلا زلت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما. وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (الإسراء:74).

ففي ظل الشجرة الثابتة مثلاً للكلمة الطيبة {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ} .. وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار، ولا ثبات {يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} .. فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق!

و {الْقَوْلِ الثَّابِتِ} هو القول الحق والصدق، الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه، وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وهو ضد القول الباطل الكذب، الذي لا يثبت بحجة، ولا برهان. وعليه فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له. وأثبت القول كلمة الحق ولوازمها؛ فهي أعظم ما يثبت الله بها عباده في الدنيا والآخرة؛ ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبًا، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلويًا وأقلهم ثباتًا. وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق، من ثبات قلبه وقت الاختبار، وشجاعته ومهابته، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة .. وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به، فقال: (والله ما فهمت منه شيئًا، إلا أني سمعت لكلامه صولة، ليست بصولة مبطل. فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت. ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم؛ كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير