تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

زِرْيابُ قَدْ يأَخُذُها دَفْعةً= وصَنْعَتي أَشْرَفُ مِنْ صَنْعَتِهْوصدقَ رحمه الله، فإِنَّ صنعتَهُ وهي العلمُ، أَشرفُ من صنعةِ زريابٍ وهي الغِناء، ولكن عند مَنْ يعرفُ قَدْرَ العلم وأهله، لا عند عامة الناس الذين يبحثون عن الشهوات، ويتطلبونها كما يتطلب الراعي مواضع الخصبِ، ومَساقطَ الغيثِ.

وليت شِعري ماذا سيقولُ عبدُالملك بن حبيبٍ لو رأَى زمانَنا هذا، وما يبلغهُ شأنُ المُغَنِّينَ من الغِنى والجاهِ عندَ أهلِ زمانِنا، ومن تكاثرهم لا كَثَّرَهم الله، ما بينَ فَنَّانٍ وفَنَّانةٍ، حتى فاقوا بذلك فيروسات الكمبيوتر! وقد قلتُ يوماً قصيدةً أوحت لي بِها نغمةُ جوالٍ سَمعتها في الصلاة، بعد أن كَبَّرَ الإمامُ تكبيرةَ الإحرامِ، بدأ هاتفُ أحد المأمومين بالرنين، فكانت نغمةً موسيقيةً صادحةً سمعها كلُّ مَنْ في المسجدِ، حيث بدأت في وقت سكونٍ يترقب فيه المأمومون شروع الإمام في الفاتحة، وجعلت الإمامَ يتأَنَّى قليلاً في قراءة الفاتحة لعل صاحبنا يغلق هاتفه، وصاحبنا لا يوقف النغمة سامحه الله حتى أصبح الموقف محرجاً للجميع، وبعد الخروج من المسجد عاتبت صاحب الهاتف، وسألتُه - وكان شاباً مِن جيراني- عن ذلك النغم الرخيم! فقال على استحياء: هذه أغنيةٌ جديدةٌ لفلان! فقلت: ومن هو فلان؟ قال: فنان جديد!

فانصرفتُ إلى بيتي وأنا أقول في نفسي: سبحان الله! لا تزالُ هناك مسافةٌ طويلة يَجبُ على الأمةِ أَنْ تقطعها حتى تنتصرَ على شَهَواتِها، وأعدائِها، وعجبتُ مِما آلتْ إليهِ حالُ كثيرٍ مِن أحبابِنا الشبابِ هداهم الله، وهذا نذير لأهل العلم، والمصلحين، أنهم إن لم يقوموا بدورهم الإصلاحي والدعوي على وجهه، فأهل الشهوات لن يتركوهم حتى في صلاتهم، وإلا من أين لي بهذا الفنان الذي لم أسمع به قط؟! وقلتُ في ذلك:

يا أُمَّةً سُبِقَتْ في كُلِّ مَيدانِ = في كُلِّ يومٍ تُوافِينا بِفَنَّانِ!

لم تَكْفِهِ مهرجاناتٌ وأَنْدِيَةٌ= فحالَ ما بَيْنِ تسبيحٍ وقُرآنِ

وضايق النَّاسَ حتى في مَساجِدِهِمْ = وأذهلَ الجيلَ عن (طَهْ) و (لُقمانِ)

يكادُ مِنْ رِقَّةٍ يَذوي، ومِنْ هَيَفٍ= يذوبُ ما بَيْنَ أنغامٍ وأَلْحانِ

ويُرسلُ الشَّوقَ آهاتٍ معذبةً = عَبْرَ الأَثِيْرِ لتُشجي المُغرمَ العاني

في كُلِّ يومٍ لَهُ لحنٌ وأُغنيةٌ= جديدةٌ، تُرسلُ الشكوى إِلى الثَّاني

لا يترك العود إلا ريث يحمله= ولست أفقده إلا ويلقاني

إلى أن قلت:

قل للذينَ بِبَحْرِ الوهمِ قد ركبوا = للوَهمِ بَحرٌ بلا ماءٍ وشُطآنِ

هو السرابُ فهل يروي لكم ظمأً= وهو العذابُ بآهاتٍ وأحزانِ

يا أمةً قد تَولَّى عن مرابِعِها= عِزُّ القيادةِ مِنْ أزمانِ أزمانِ

وسَلَّمَتْ أمرَها للاعبينَ بِهِ= واستحلَت النومَ فافرَح أيُّها الشاني

ما دام صوتُ أذانِ الفجرِ يُزعِجُنا= ويُطربُ السمعَ (فيروزٌ) و (حلاَّني)

فالدَّربُ رَهْوٌ، وعينُ الخَصمِ ترمُقُنا= والجيلُ ضاعَ بيا دانِ ويا دانِ

فهوَ الخَبِيْرُ بفيروزٍ وزُمْرَتِها = وهو الجَهولُ بـ (عمَّارٍ) و (سلمانِ)!

الخ ...

لست أدري ما الذي جعلني أستطرد في هذا التعقيب إلى هذا، ولكنه واقع نعيشه بتفاصيله كل يوم وليلة، ونرجو من الله أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، فقد اشتد البلاء لأهل الإسلام، وعسى أن يكونَ وراءه فَرَجٌ قريبُ! ولعل أخاً أديباً من أعضاء الملتقى يكون لهذا صدى في نفسه، فيذكر مما يشاكل هذه القصص التي تدل على أن الذين يعرفون قدر العلم – من أمثال الدكتور جمال أبو حسان - قِلَّةٌ في المُجتمعات، بل قلة في طلبة العلم فيما بينهم، ورحم الله الشيخ علي الطنطاوي فقدشكى مراراً مما يلقاه العلماء والأدباء من إعراض الناس، وما يلقاه المغنون واللاعبون من الحفاوة والإكرام.

ولو قام أهل كل بلدة وناحية بحق أهل العلم والفضل فيهم، من الإشادة بعلمهم، والترجمة لهم، لحفظوا حقوق هؤلاء العلماء، وعرفهم المسلمون وانتفعوا بعلمهم. وتحضرني كلمة قالها الشوكاني رحمه الله في كتابه البدر الطالع 1/ 59 في ترجمة أحمد بن صالح بن أبي الرجال، وتأليفه كتاب (مطلع البدورومجمع البحور). قال الشوكاني: (ترجم فيه لأعيان الزيدية، فجاء كتاباً حافلاً، ولولا كمال عنايته، واتساع اطلاعه لما تيسر له جمع ذلك الكتاب؛ لأن الزيدية - مع كثرة فضلائهم، ووجود أعيان منهم في كل مكرمة، على تعاقب الأعصار - لهم عناية كاملة، ورغبة وافرة في دفن محاسن أكابرهم، وطمس آثار مفاخرهم، فلا يرفعون إلى ما يصدر عن أعيانهم من نظم أونثر أوتصنيف راساً، وهذا مع توفر رغباتهم إلى الاطلاع على ما يصدر من غيرهم، والاشتغال الكامل بمعرفة أحوال سائر الطوائف، والإكباب على كتبهم التاريخية وغيرها.

وإني لأكثر التعجب من اختصاص المذكورين بهذه الخصلة التي كانت سبباً لدفن سابقهم ولا حقهم، وغمط رفيع قدر عالمهم وفاضلهم، وشاعرهم وسائر أكابرهم، ولهذا أهملهم المصنفون في التاريخ على العموم، كمن يترجم لأهل قرن من القرون أو عصر من العصور، وإن ذكروا النادر منهم ترجموه ترجمة مغسولة عن الفائدة، عاطلة عن بعض ما يستحقه، ليس فيها ذكر مولد ولا وفاة ولا شيوخ ولا مسموعات ولا مقروءات ولا أشعار ولا أخبار؛ لأن الذين ينقلون أحوال الشخص إلى غيره هم معارفه وأهل بلده، فإذا أهملوه أهمله غيرهم وجهلوا أمره). أهـ.

وكلام الشوكاني نفيس، والتعليق عليه متروك لكم وفقكم الله.


(1) هو علي بن نافع المتوفى سنة 230هـ، مولى الخليفة المهدي العباسي، وأحد المغنين المطبوعين، والموسيقيين المشهورين وله إضافة لأوتار العود تعرف به، سافر إلى الأندلس عام 210 هـ تقريباً، وقد سبقته شهرته إليها، فاستقبله عبدالرحمن بن الحكم الخليفة، وفيه يقول المسعودي في موشحته:

رُتَّعاً نَشوى وَمَهما سُئِما= وَتَرُ العودِ الشَجيِّ التونِسي
حَرّكوا الطارَ وَغَنّوا نَغَماً= صاغَها زِريابُ في الأَندَلُسِ
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير