فمنعه جماهير البصريين وقال به جماهير الكوفيين.
وهذا ما ينفيه بشدة علماء البلاغة والنظم القرآني المدافعين عن رأيهم ((الصحيح)) في نفي الترادف عن القرآن الكريم.
فإن كان الترادف منفياً، فإن تناوب الحروف منفي من باب أولى.
ولكنهم جوزوا القول بأن بعض حروف الجر، تفيد معانٍ عدة (منها معاني حروفٍ أخرى) تفهم من السياق، مع فرق دقيق بين معنى الحرف المراد من الآية.
كالفرق بين الريب والشك، في قوله تعالى: " لا ريب فيه " ... ومثله الفرق بين: مهطعين ومسرعين، الخوف والخشية، المكر والكيد، ... الخ
مثلاً الباء: تفيد معنى ..
في: كقوله تعالى: " ولقد نصركم الله ببدر ". آل عمران123.
عن: كقوله تعالى: " فاسأل به خبيراً ". الفرقان: 59.
على: كقوله تعالى: " ما أن تأمنه بقنطار ". آل عمران: 75.
مع: كقوله تعالى: " فأتبعهم فرعون بجنوده ". طه: 78.
من: كقوله تعالى: " عيناً يشرب بها عباد الله ". الإنسان: 6.
إلى: كقوله تعالى: " وقد أحسن بي ". يوسف: 100.
انظر: الجني الداني في معاني حروف المعاني للمرادي، ورصف المباني في شرح حروف المعاني للمالقي.
والآن إلى موضع الشاهد هنا:
قوله تعالى: " فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأرْضِ "
من معاني (مِن): الظرفية: (في)
ومن معاني (في): التبعيض أو البيان (مِن).
فمن الممكن أن يدل أحدهما على معنى الآخر ...
أولاً: " في " بمعنى " من ":
- قوله تعالى: " ويوم نبعث في كل أمة شهيداً ". النحل: 89.
أي: من كل أمة. انظر ما قبلها: " وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) ". والنساء: " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) ".
- وقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
أراد: منك.
- وقوله: وهل يعمن من كان أحدث عهده ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال
أراد: من ثلاثة أحوال.
(انظر: البرهان للزركشي4/ 303، الأزهية في علم الحروف للهروي، ص289).
ثانياً: " مِن " بمعنى " في ":
- قوله تعالى: " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ". الجمعة: 9.
أي: في يوم الجمعة.
(انظر: البرهان للزركشي4/ 421، ومغني اللبيب لابن هشام ص321، وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك2/ 288، وشرح التصريح على التوضيح للأزهري 2/ 8).
- وقوله تعالى: " أروني ماذا خلقوا من الأرض ". فاطر: 40.
أي: في الأرض.
(انظر: المراجع السابقة والأزهية ص293، والجني الداني ص314).
- ومثله للشاعر الجاهلي أبي اللحام التغلبي ـ وقيل لعدي بن زيد ـ:
عَسى سائِلٌ ذُو حاجَةٍ إِن مَنَعتَهُ مِن اليَومِ سُؤلاً أَن يَكون لَهُ غَدُ
أي: في اليوم.
(انظر: رصف المباني ص314).
بهذا يتبين أنه يجوز لـ (من) أن تحمل معنى الظرفية (في) , بالإضافة إلى ما تتميز به من معان أخرى.
ومن اليسير نقد هذا الرأي أو ذاك، فكلها خاضعة للاجتهاد المأجور، سواء كان بأجر أو أجرين.
والله الميسر لما فيه الحق والسداد