تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (ص:71 - 72)، فبين سبحانه أنه خلق آدم- عليه السلام- من طين، وأتم خلقه، ونفخ فيه من روحه، ثم أمر الملائكة بالسجود له. ولم يأمرهم قبل ذلك، أو في الأزل؛ كما يذهب إليه بعضهم .. ومثل هذا الخبر في القرآن كثير، يخبر أنه تكلم في وقت معين، ونادى في وقت معين.

وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82)، فبين جلَّ جلاله، أنه قال لآدم- عليه السلام- بعد أن خلقه من طين، وأتمَّ خلقه: كُنْ، فَكَانَ بشرًا بنفخ الروح فيه .. هكذا كان خلق آدم عليه السلام.

وأما المسيح- عليه السلام- فخلق جسده كان خلقًا إبداعيًا، بنفس نفخ روح القدُس في أمه. قيل له: كُنْ، فَكَانَ .. فكان له من الاختصاص، بكونه خلق بكلمة الله، ما لم يكن لغيره من البشر.

وقد بيَّن الله تعالى ذلك في قوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم:12)، وقوله سبحانه وتعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران:47).

فأخبر سبحانه وتعالى أنه نفخ في مريم من روحه؛ كما أخبر أنه نفخ في آدم من روحه، ثم أخبر أن عيسى مخلوق بكلمة: (كن)؛ كما أخبر أن آدم مخلوق بكلمة: (كن).

ولكن آدم- عليه السلام- لم يُسَمَّ: (روح الله) و (كلمة الله)؛ كما سمِّيَ بهما عيسى- عليه السلام- لأن جسده خلق من التراب، وبقي هكذا مدة طويلة، يقال: أربعين سنة. فلم يكن خلْقُ جسده إبداعيًّا، في وقت واحد؛ كما كان خلق عيسى؛ بل كان خلقه شيئًا، فشيئًا. ولهذا شُبِّه به خلق عيسى .. وإن كان قد شبه به لكونه خلق من تراب، فلأن خلقهما يرجع، في الحقيقة، إلى التراب. وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” كلكم لآدم وآدم من تراب “.

وهذا ما أكدَّه القرطبي بقوله:” التشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب؛ كآدم، لا على أنه خلق من تراب .. والشيء قد يشبه بالشيء، وإن كان بينهما فرق كبير، بعد أن يجتمعا في وصف واحد. فإن آدم قد خلق من تراب، ولم يخلق عيسى من تراب، فكان بينهما فرق من هذه الجهة؛ ولكنْ شَبَهُ ما بينهما: أنهما خلقا من غير أب؛ ولأن أصل خلقهما كان من تراب؛ لأن آدم، لم يخلق من نفس التراب؛ ولكنه جعل التراب طينًا، ثم جعله صلصالا، ثم خلقه منه .. فكذلك عيسى حوله من حال إلى حال، ثم جعله بشرًا من غير أب“.

فإن جاز ادعاء البُنُوة والإلهيَّة في عيسى لكونه مخلوقًا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى .. ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل. وإذا كان ذلك باطلاً، فدَعْواه في عيسى أشدُّ بطلانًا، وأظهر فسادًا؛ ولكنَّ الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه، وأن يبين عموم هذه القدرة في خلق النوع البشري على هذه الأقسام الممكنة، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى. فكان خلق آدم، وحواء أعجب من خلق المسيح، وكان خلق حواء أعجب من خلق المسيح في بطن أمه مريم، وخلق آدم أعجب من هذا، وهذا، وهو أصل خلقهما، وخلق الناس أجمعهم.

وقال الزركشي في البرهان:” وأما قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} فهو من تشبيه الغريب بالأغرب؛ لأن خلق آدم من خلق عيسى؛ ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس، وفيه دليل على جواز القياس، وهو رد فرع إلى أصل لشبهٍ ما؛ لأن عيسى رُدَّ إلى آدم لشبه بينهما “.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير