وسمَّى ابن قيِّم الجوزيَّة- في كتابه: إعلام الموقعين- هذا النوع من القياس: قياسَ العلة، وكان قد ذكر أن الأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه، ثم قال:” فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع؛ منها قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، فأخبر أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى، الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات؛ وهو مجيئها طوعًا لمشيئته وتكوينه. فكيف يَسْتنكر وجودَ عيسى من غير أب مَنْ يُقِرُّ بوجود آدم من غير أب، ولا أم، ووجود حواء من غير أم؟! فآدم وعيسى مثيلان، يجمعهما المعنى، الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة؛ لأنه تعالى لم يذكر- هنا- اسم المسيح، إنما ذكر عيسى فقط .. وقوله تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} تفصيلٌ لما أجمِل في المثل، وتفسيرٌ لما أبهم فيه، ببيان وجه الشبه.
ولقائل أن يقول: لمَ قال سبحانه: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، ولم يقل: خلقه من طين؛ كما أخبر سبحانه في غير موضع؟
والجواب عن ذلك- كما قال الزركشي في البرهان-: إنما عدل عن الطين، الذي هو مجموع الماء والتراب، إلى ذكر مجرَّد التراب، لمعنى لطيف؛ وذلك أنه أدنى العنصرين، وأكثفهما. فلما كان المقصود مقابلة من ادَّعى في المسيح الإلهية، أتى بما يصَغِّر من أمر خلقه عند من ادَّعى ذلك .. فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمسَّ في المعنى من غيره من العناصر.
ولما أراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل، أخبرهم أن يخلق لهم من الطين؛ كهيئة الطير، تعظيمًا لأمر ما يخلقه بإذنه؛ إذ كان المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه؛ ليعظموا قدر النعمة به.
ومن الأول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ .. الآية} (الحج:5) .. ومن الثاني قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (السجدة:7 - 8).
وفي ذلك من مشاكلة اللفظ للمعنى ما لا يخفى. ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} (الرعد:45). فإنه سبحانه، إنما اقتصر على ذكر (الماء) دون بقية العناصر؛ لأنه أتى بصيغة الاستغراق، وليس في العناصر الأربع ما يعمُّ جميع المخلوقات إلا الماء؛ ليدخل الحيوان البحري فيها .. فتأمل.
وفي قوله تعالى: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ما يُسأل عنه؛ وهو: كيف يقول الله تعالى للشيء: {كُنْ}، ثم لا يكون واقعًا في الحال؛ كما يدل على ذلك قوله تعالى: {فَيَكُونُ}، الذي يدل على المستقبل المتراخي، ولو كان ما أمر الله به واقعًا في الحال، لكانت صياغة الآية هكذا: (ثم قال له كن فكان)، فكيف يكون هذا؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل، تحول بين القدرة، وبين إمضاء ما قدرت على الفور وفي الحال؟
وقد اضطربت أقوال المفسرين في الإجابة عن ذلك، وكادوا يجمعون على القول بأن المراد بقوله تعالى {فيكون}: حكاية حال ماضية. أي: ثم قال له كن فكان.
وقال البغوي في تفسيره:” فإن قيل: ما معنى قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، ولا تكوين بعد الخلق؟ قيل: معناه: خلقه، ثم أخبركم أني قلت له: كن، فكان، من غير ترتيب في الخلق؛ كما يكون في الولادة؛ وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أعطيتك أمس درهمًا. أي: ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا “ .. فتأمل!!
¥