والجواب السديد عن ذلك- كما قال عبد الكريم الخطيب في تفسير القرآن للقرآن- هو:” أن قول الله تعالى للشيء: {كُنْ}، لا يقتضي وقوع هذا الشيء في الحال؛ إذ قد يكون الأمر موقوتًا بوقت، أو متعلقًا بأسباب لا بدَّ أن يقترن حدوثه بها. وهذه الأسباب لا متعلَّق لها بقدرة الله؛ وإنما مُتعلَّقُها بالشيء ذاته، الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة الله ألا يظهر؛ إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82) “.
وذلك الشيء- كما قال الشيخ ابن تيميَّة- هو معلوم، قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه؛ وبذلك كان مقدَّرًا مقضِيًّا. فإن سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر: ” إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة“.
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:” كان الله، ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض “.
وفي سنن أبي داود، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:” أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة“.
إلى أمثال ذلك من النصوص، التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق، كان معلومًا، مخبَرًا عنه، مكتوبًا فيه شيء، باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي؛ وإن كانت حقيقته، التي هي وجوده العيني، ليس ثابتًا في الخارج؛ بل هو عدم مَحضٌ، ونَفْيٌ صِرفٌ.
وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات، وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1 - 5).
وإذا كان كذلك، كان الخطاب موجهًا إلى من توجهت إليه الإرادة، وتعلقت به القدرة، وخُلِق، وكُوِّن؛ كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل:40).
فالذي يُقال له: {كُنْ} هو الذي يُراد. وهو حين يُراد، قبل أن يُخلَق، له ثبوت وتميُّزٌ في العلم والتقدير. ولولا ذلك لما تميَّز المُرَاد المخلوق، من غيره.
فثبت بذلك أن الله تعالى إذا أراد أن يْكوِّن شيئًا معلومًا لديه، توجَّه سبحانه إلى ذلك الشيء بالخطاب، بقوله: {كُنْ}، {فَيَكُونُ}. أي: يوجد ذلك المكوَّن عقِب التكوين والتخليق، لا مع ذلك في الزمان، ولا متراخيًا عنه؛ ولهذا أتى سبحانه بصيغة الاستقبال مسبوقة بالفاء. وكون الفاء للتعقيب يوجب أن يكون الثاني عقب الأول، لا معه، ولا متراخيًا عنه.
وقد تكون الفاء لترتيب الكلام في اللفظ، فلا تفيد معنى التعقيب؛ نحو قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (الأعراف:4). دخلت الفاء- هنا- لترتيب اللفظ؛ لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر؛ لأن لاهتمام به أولى، وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود. وهذا معنى قول النحاة:” إنها تأتي للترتيب في الخبر، لا المخبر“. والله تعالى أعلم بأسرار خلقه، وبيانه!
محمد إسماعيل عتوك
ـ[فهد الناصر]ــــــــ[04 Apr 2005, 01:31 ص]ـ
ما شاء الله تبارك الله. منذ مدة وأنا أقرأ موضوعاتكم القيمة في ملتقى التفسير، وأتساءل عن سبب انقطاع هذا النفس العلمي الماتع، فالحمد لله على عودتكم وتنشيطكم للملتقى العلمي الذي يضم نخبة من طلاب العلم بارك الله فيهم.
يظهر لي يا أستاذ محمد عتوك تضلعكم من علمي البلاغة والنحو، والذي كان لعبدالقاهر الجرجاني دور في المزج بينهما في ما سماه معاني النحو، ثم سماه الزمخشري بعد ذلك علم المعاني، وبنى عليه تفسيره الكشاف. ولدي سؤال يا أستاذ محمد:
- ما رأيك في قيمة تفسير الكشاف البيانية؟ هل هو كما يصوره الدارسون يمثل مرحلة متميزة في دراسة البلاغة وتطبيقها على القرآن الكريم؟ وهل كان لاتجاهه الاعتزالي أثر كبير في آراءه البلاغية في التفسير؟
أتمنى أسمع ردك مع علمي بحاجته إلى كتابة طويلة من مثلكم جزاكم الله خيراً. ولكن ثق بأننا نثمن ما تكتبه ونترقبه ودمتم.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[04 Apr 2005, 03:49 ص]ـ
تحية وتقدير للأستاذ الكريم أبي الهيثم وفقه الله على هذا الموضوع الممتاز كعادته، لا عدمنا فوائدكم.