وقال السيوطي أيضًا:” وهو من ألطف الأنواع، وأبدعها، وقلَّ من تنبَّه له، أو نبَّه عليه من أهل فنِّ البلاغة، وذكره الزركشي في (البرهان)، ولم يسمِّه هذا الاسم، بل سماه: الحذف المقابلي “ .. ثم نقل عن الأندلسي قوله في شرح (البديعية):” من أنواع البديع (الاحتباك)؛ وهو نوع عزيز، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول؛ كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}. التقدير: ومثل الأنبياء والكفار، كمثل الذي ينعق والذي ينعق به؛ فحذف من الأول (الأنبياء) لدلالة (الذي ينعق) عليه، ومن الثاني (الذي ينعق به)؛ لدلالة (الذين كفروا) عليه “.
وهكذا الشأن في كل تمثيل مفرَّق كان، أو مركَّب- كتمثيل المنافقين بقوم مخصوصين، ذهب الله تعالى بنورهم، وحرمهم الانتفاع به، وتمثيل رسول الله ? بالذي استوقد نارًا. ثم تمثيلهم بقوم آخرين، أخذتهم السماء في ليلة ممطرة، وتمثيل القرآن الكريم بصيِّب من السماء.
قال ابن قيِّم الجوزيَّة:” ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركَّب، وأن تجعله من التشبيه المفرَّق. فإن جعلته من المركَّب، كان تشبيهًا للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم، بالغنم، التي ينعق بها الراعي، فلا تفقه من قوله شيئًا، غير الصوت المجرَّد، الذي هو الدعاء والنداء.
وإن جعلته من التشبيه المفرَّق، فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاءُ داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي يُنْعَق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النَّعْق، وإدراكُهم مجرَّد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرَّد صوت الناعق .. والله أعلم! “.
ونقرأ الآية الكريمة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}، فنجد لمحة من لمحات الإعجاز، في هذا التخالف بين جزأي الصورة، في المشبَّه، والمشبَّه به؛ حيث كان الظاهر أن يُقال: مثل الذين كفروا كمثل الذين ينعقون بما لا يسمع إلا دعاء ونداء.
ولكن هذا يفسد المعنى؛ لأنه يقضي أن تكون المشابهة بين حال الكافرين، وحال الذين ينعقون بأغنامهم. وهذا لا يصح، إلا على قول من ذهب إلى أن المراد من هذا المثل، هو تشبيه حال الكافرين، في دعائهم وندائهم للأصنام، بحال الراعي، في نعيقه بأغنامه. ولهذا قالوا: لمَّا كان المراد تشبيه حال بحال، جاز تشبيه الجمع بالمفرد.
وقد سبق أن ذكرنا، أن المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا}: طائفة من اليهود؛ لأن الآية نزلت فيهم، ولم تكن اليهود أهلَ أوثان، يعبدونها، ولا أهلَ أصنام يعظمونها، ويرجون نفعها، أو دفعَ ضرِّها؛ حتى يُشبَّه حالهم، في دعائهم وندائهم للأصنام، بحال الراعي، في نعيقه بالبهائم؛ وإنما المراد- كما ذكرنا- هو تشبيه حالهم في دعائهم إلى الإيمان، بحال البهائم، التي ينعِق بها راعيها، فلا تسمع إلا صوته، ولا تفقه ما يقول، وتشبيه حال داعيهم، بحال داعي البهائم، وحذف من المشبه (داعيهم)؛ لدلالة {الَّذِينَ كَفَرُوا} عليه، وحذف من المشبه به (البهائم)، لدلالة {الَّذِي يَنْعِقُ} عليه.
ولهذا قال الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ}، فأضاف لفظ (مَثل) - في طرف المشبه- إلى الذين كفروا، وأضافه- في طرف المشبه به- إلى {الَّذِي يَنْعِقُ} .. وهذا هو سرُّ الإعجاز في هذا التركيب، ونحوه، في البيان الأعلى!
والنعيق: الصياح والزجر. يقال: نعَق الراعي بالغنم ينعِق نَعْقًا ونُعاقًا ونَعيقًا ونُعْقانًا: صاح بها وزجرها؛ ويكون ذلك في الضأن والمَعْز. وفي الحديث: أن النبي ? قال لنساء عثمانَ بن مظعون، لما مات:” ابكين! وإياكن، ونعيق الشيطان“. يعني: الصِّياح والنَّوْح. وأضافه إلى الشيطان؛ لأنه الحامل عليه (9) 0
وفي قوله تعالى: {يَنْعِقُ} - إشارة إلى أن الكلمات، التي يهتف بها الهاتف إلى هذه الدواب، هي بالنسبة إليه نعيقًا .. ولهذا عبَّر عنها بما هي صائرة إليه، لا بما كانت عليه عند النطق بها .. فتأمل!
¥