تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأما قوله تعالى: {بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} فالمراد به: نفْيُ سمْع الفَهْم عن الكفار، وإثبات سمْع الصوت المجرد لهم. وبذلك جعل الله تعالى سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة. أي: يسمعون مجرَّد الأصوات كسَمْع الحيوان .. لا يسمعون- ما فيها من تأليف الحروف المتضمنة للمعاني- السَّمْعَ، الذي لا بد أن يكون بالقلب مع الجسم.

وذلك- كما قال الشيخ ابن تيميَّة- لا يمنع أن يكونوا قد يسمعون، إذا زال الغطاء، الذي على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم .. فإنهم لا يسمعون لذلك المعنى المشتق منه؛ وهو الكفر. فما داموا هذه حالهم، فهم كذلك. ولكن تغيُّر الحال ممكن؛ كما قال: {إلا أن يشاء الله} (الكهف:24)، وكما في الواقع.

ومثل هذا يفيد أن الإنسان لا يعتقد أنه بدعائه وإنذاره وبيانه، يحصل الهدى، ولو كان أكمل الناس. وأن الداعي- وإن كان صالحًا ناصحًا مخلصًا- فقد لا يستجيب المدعو، لا لنقص في الدعاء؛ ولكن لفسادٍ في المدعو.

وأما الدعاء والنداء فهما في الأصل مصدران لـ (دعا يدعو)، و (نادى ينادي)، ثم أقيم كلٌّ منهما مقام الاسم، تقول: سمعت دعاءً ونداءً؛ كما تقول: سمعت صوتًا، أو كلامًا، أو قولا.

وقد يقال كلٌّ منهما للصوت المجرَّد؛ كما في قوله تعالى: {بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}. وقد سبق أن ذكرنا أن المعنى المراد من هذا المثل: مثل الكفار مع محمد ? كمثل الناعق مع المنعوق به. شبههم بالغنم، التي تسمع نعيق الراعي، ولا تفهم منه إلا الصوت المجرَّد. وكذلك هؤلاء الكفار، يسمعون الدعاء والنداء، فلا يفهمون منهما إلا الصوت المجرَّد، دون المعنى، الذي يقتضيه تركيب الكلام.

ويقال كلٌّ منهما للصوت المركب، الذي يفهم منه ذلك المعنى؛ نحو قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} (الفرقان:77)، وقوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (مريم:3).

أما قولهم: إن الدعاء كالنداء، وأنه قد يستعمل كلٌّ منهما موضع الآخر، كما في آية البقرة السابقة فليس بشيء .. والدليل على ذلك أن الله تعالى، قد غاير بينهما، فقال?: {دُعَاءً وَنِدَاءً ً}. فلو كان ما قالوه صحيحًا، استغنِيَ بأحدهما عن الآخر؛ وإلا لكان تكرارًا، لا مبرر له، ولا مسوِّغ .. فتأمل!

وقال تعالى: {إلا دعاء ونداء}، فقدَّم الدعاء على النداء. وسر الإعجاز في ذلك يتجلَّى لنا في أمور، نذكر منها:

1 - أن النداء عام، والدعاء مختص بالله تعالى.

2 - أن النداء مختص بالجهر، والدعاء غير مختص به.

3 - أن النداء مختص بالبعد، والدعاء غير مختص به.

4 - أن النداء إجابة الصوت، والدعاء طلب الفعل.

أما قوله تعالى على لسان زكريا ?: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (مريم:3 - 4) فإن زكريا- عليه السلام- أشار بالنداء إلى الله تعالى؛ لأنه تصوَّر نفسه بعيدًا منه بذنوبه، وأحواله السيِّئة؛ كما يكون حال مَن يخاف عذابه. وهذا بخلاف قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} (آل عمران:38). فجاء- هنا- بفعل الدعاء؛ لأنه ? كان في مقام، يكون فيه العبد أقرب إلى ربه عز وجل من أي مقام آخر.

فثبت بذلك أن النداء أعم من الدعاء؛ إذ كل نداء دعاء، وليس كل دعاء بنداء. ولهذا قُدِّم الأخصُّ على الأعمّ .. ولهذا أيضًا فسر الزمخشري النداء بالدعاء، في قوله تعالى على لسان نوح ? {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (هود:45)، فقال:” نداؤه ربَّه: دعاؤه له؛ وهو قوله: {رَبِّ}، مع ما بَعده من اقتضاء وعده في تنْجيَة أهله.

وقال تعالى- هنا-: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، فسلب العقل عن الكفار؛ لأنهم لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان. وقال سبحانه في مَثل المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}، فسلب الرجوع عن المنافقين؛ لأنهم آمنوا ثم كفروا، فلم يرجعوا إلى الهدى بعد أن باعوه بالضلالة. أو: عن الضلالة بعد أن اشترَوْها بالهدى. أو: إلى حيث ابتدءوا منه. والكل محتمل؛ لأن المراد، بنفي الفعل: مطلق الفعل، دون قيد .. فتأمل!

الاثنين / 2 / أيار / 2005م محمد إسماعيل عتوك

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير