تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك: أقدمني بلدك حق لي على إنسان: فاعلاً سوى الحق وكذلك لا تستطيع في قوله من مجزوء الوافر: وقوله من مجزوء الوافر يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا أن تزعم أن لصيرني فاعلاً قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى كما فعل ذلك ربحت تجارتهم ويحمي نساءنا ضرب ولا تستطيع كذلك أن تقدر ليزيد في قوله يزيدك وجهه فاعلاً غير الوجه.

فالاعتبار إذاً بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجوداً في الكلام على حقيقته.

معنى ذلك أن القدوم في قولك: أقدمني بلدك حق على إنسان موجود على الحقيقة وكذلك الصيرورة في قوله: وصيرني هواك والزيادة في قوله يزيدك وجهه موجودتان على الحقيقة.

وإذا كان معنى اللفظ موجوداً على الحقيقة لم يكن المجاز فيه نفسه.

وإذا لم يكن المجاز في نفس اللفظ كان لا محالة في الحكم.

فاعرف هذه الجملة وأحسن ضبطها حتى تكون على بصيرة من الأمر.

ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف من الوافر:

أبي عبر الفوارس يوم داج

وعمي مالك وضع السهاما

فلو صاحبتنا لرضيت عنا إذا لم تغبق المئة الغلاما يريد إذا كان العام عام جدب وجفت ضروع الإبل وانقطع الدر حتى إن جلب منها مئة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام واحد.

فالفعل الذي هو غبق مستعمل في نفسه على حقيقته غير مخرج عن معناه وأصله إلى معنى شيء آخر.

فيكون قد دخله مجاز في نفسه.

وإنما المجاز في أن أسند إلى الإبل وجعل فعلاً لها.

وإسناد الفعل إلى الشيء حكم في الفعل وليس هو نفس مجنى الفعل فاعرفه.

واعلم أن من سبب اللطف في ذلك أنه ليس كل شيء يصلح لأن يتعاطى فيه المجاز الحكمي بسهولة بل تجدك في كثير من الأمر وأنت تحتاج إلى أن تهيء الشيء وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم.

وإن أردت مثالاً في ذلك فانظر إلى قوله من الطويل: تناس طلاب العامرية إذ نأت بأسجح مرقال الضحى قلق الضفر إذا ما أحسته الأفاعي تميزت شواة الأفاعي في مثلمة سمر تجوب له الظلماء عين كأنها زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر يصف جملاً ويريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها.

ولولاها لكانت الظلماء كالسد والحاجز الذي لا يجد شيئاً يفرجه به ويجعل لنفسه فيه سبيلاً.

فأنت الآن تعلم أنه لولا أنه قال: تجوب له فعلق له بتجوب لما صلحت العين لأن يسند تجوب إليها ولكان لا تتبين جهة التجوز في جعل تجوب فعلاً للعين كما ينبغي.

وكذلك تعلم أنه لو قال مثلاً: تجوب له الظلماء عينه لم يكن له هذا الموقع ولا ضرب عليه معناه وانقطع السلك من فتأمل هذا واعتبره.

فهذه التهيئة وهذا الاستعداد في هذا المجاز الحكمي نظير أنك تراك في الاستعارة التي هي مجاز في نفس الكلمة وأنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن تمهد لها وتقدم أو تؤخر ما يعلم به أنك مستعير ومشبه ويفتح طريق المجاز إلى الكلمة.

ألا ترى إلى قوله من الطويل:

وصاعقة من نضله تنكفي بها

على أرؤس الأقران خمس سحائب

عنى بخمس السحائب أنامله ولكنه لم يأت بهذه الاستعارة دفعة ولم يرمها إليك بغتة بل ذكر ما ينبىء عنها ويستدل به عليها فذكر أن هناك صاعقة وقال: من نصله فبين آن تلك الصاعقة من نصل سيفه ثم قال: على أرؤس الأقران ثم قال: خمس فذكر الخمس التي هي عدد أنامل اليد فبان من مجموع هذه الأمور غرضه.

وأنشدوا لبعض العرب من الرجز:

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإن في أيماننا نيرانا

يريد أن في أيماننا سيوفاً نضربكم بها.

ولولا قوله أولاً: فإن تعافوا العدل والإيمان وأن في ذلك دلالة على أن جوابه أنهم يحاربون ويقسرون على الطاعة بالسيف ثم قوله فإن في أيماننا لما عقل مراده ولما جاز أن يستعير النيران للسيوف لأنه كان لا يعقل الذي يريد لأنا وإن كنا نقول: في ناهضتهم والبارقات كأنها شعل على أيديهم تتلهب فإن هذا التشبيه لا يبلغ ما يعرف مع الإطلاق كمعرفتنا إذا قال: رأيت أسداً أنه يريد الشجاعة.

وإذا قال: لقيت شمساً وبدراً أنه يريد الحسن ولا يقوى تلك القوة فاعرفه.

ومما طريق المجاز فيه الحكم قول الخنساء من البسيط:

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير