ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[17 - 10 - 2005, 11:03 م]ـ
بارك الله فيكم جميعاً على هذه اللفتات الماتعة والنكات البليغة والمصيبة بإذن الله ..
وأحببت - في هذا الشهر الفضيل - أن أشارككم ببعض الفوائد والعبر التي تتجلّى لنا عند تدبّر آية البقرة الكريمة، والتي جاء فيها قول الحقّ تبارك وتعالى: " لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ " (البقرة: 177).
الفائدة الأولى:
ذُكرت في الآية مظاهر البرّ وأركانه وذُكر في آخرها الإيفاء بالعهد بأسلوب خاصّ مميّز. وهذا النظم بهذا الأسلوب يوحي إلينا أن الإيفاء بالعهد له شأن خاصّ من بين أركان البرّ، بل هو الأصل في معنى البرّ. وسائر ما ذكر من الصفات والمعاني منبثقة من هذا المعنى وناتجة منه.
ويشبه هذا النظم ما جاء في قوله تعالى: " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ " (البقرة: 40)، ثم ذكر البرّ حيث وجّه العتاب إليهم في شأنه، قال تعالى: " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " (البقرة: 44).
ولكن هذا الاختلاف في الترتيب في الموضعين إنما هو بسبب الجو الذي يحيط بهما.
فالجوّ في الموضع الأول جوّ توجيه وإرشاد فوُعظوا وذُكّروا أولاً بأن يوفوا بعهد الله ويقوموا لأداء ما يملي عليهم هذا العهد، ثم عوتبوا على أنهم يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم.
وهذا بخلاف الموضع الثاني حيث إن الجو فيه جو تنحية من جهة وجو تكرمة من جهة أخرى.
فقد نُحّي بنو إسرائيل عن شرف البرّ وفي نفس الوقت أُكرم به قوم آخرون، ثم ذكر - آخر ما ذكر - في سياق القوم الذين أُكرموا بهذا الشرف أنهم يوفون بعهدهم إذا عاهدوا، وذكر هذا بأسلوب متميّز خاصّ، قال تعالى: " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ".
وليس معنى ذلك إلا أن أكبر ما اجترحته يهود والنصارى هو أنهم نقضوا عهودهم لمّا عاهدوا، ولأجل سلوكهم هذا خُلعت عنهم فضيلة البرّ.
ومن هذا الموضع يتأكّد لنا أن الوفاء بالعهد هو الأساس وهو الأصل في معنى البرّ، وتغيّر الأسلوب هنا له شأن لا يُنكر وهو لا يخلو من دلالة خاصّة.
ثم إذا كان البرّ بمعنى الإيفاء بالعهد، أو إذا كان الإيفاء بالعهد هو الأصل في مدلوله، فهذا يعني أن البرّ هو الخير كله، أو قل هو جماع الخيرات. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " لا دين لمن لا عهد له ".
الفائدة الثانية:
نستوحي من هذه الآية الكريمة أن يهود ونصارى إنما كانوا يولّون وجوههم قبل المشرق والمغرب لأنهم كانوا في واد والإيمان في واد. ولو أنهم كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر لما لبثوا أن ولّوا وجوههم شطر المسجد الحرام، ولكنهم كانوا كما قال الله تعالى فيهم: " وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ " (البقرة: 145).
الفائدة الثالثة:
ومما تدلّ عليه الآية الكريمة أن الصبر والصمود في أحلك الظروف وأحرج المواقف هو تمام الوفاء بالعهد، وهو ذروة البرّ وقمّته، كما أنه هو الزاد الوحيد لمن كان يريد أن يسلك سبيل البرّ. ومن هنا قال سيدنا عمر في وصية له لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهما: ( .. واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر الصبر على ما أصابك أو نابك .. ).
الفائدة الرابعة:
¥