أما آية المائدة: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ "، فإنها تخصّ فترة ما بعد الإسلام منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة. وهي تبيّن أن الطوائف الثلاث لم يعد مقبولاً منها بعد مجيء الإسلام إلا الدخول فيه والعمل بشريعته، لأنه ناسخ لكل ما سبقه، فالذين استجابوا منهم لذلك كان مصيرهم كمصير المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما آية الحج: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ "، فإنها تختصّ بيوم القيامة، ومن ثم ذُكر فيها إلى جانب الطوائف الأربع طائفتان ليستا من ضمن الأديان والملل المنزلة من عند الله، وهما طائفة المجوس وطائفة الذين أشركوا. ولأن يوم القيامة يوم فصل بين الخلائق جميعاً، ومن ثم ذكر الملل الست التي ينطوي تحتها جميع الناس، ولم يذكر فيها " مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً "، لأن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يمكن أن يكون يوم القيامة، ولو حصل فإنه لا يُقبل.
وجاءت الطوائف الثلاث في سورة البقرة معطوفة على " الَّذِينَ آمَنُوا " - اسم إنَّ المنصوب - ومن ثم جاء خبرها واحداً، وأنهم جميعاً لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وذلك تأكيداً بأن أهل كل ملّة هم على حقّ في زمن ملّتهم طالما أنهم ملتزمون بما جاءهم به نبيّهم، وأن جميع الرسالات المنزلة من عند الله تعالى في ذلك سواء. ولهذا كان قوله: " مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً "، يعود إلى الطوائف الأربع لأن المراد به تحرّي اليقين فيما يتعاطاه الإنسان من أمر دينه، وهذا مما تستوي فيه الملل الأربع.
أما آية المائدة فقد جاء الحديث فيها عن " الَّذِينَ آمَنُوا " في جملة مستقلّة حُذف خبرها لدلالة المذكور عليه، إشعاراً بأنه بعد مجيء الإسلام لن يُقبل غيره، وأن الأصل في النجاة يوم القيامة لمن آمن به فقط. ومن ثم ذكر الملل الثلاث في جملة مستقلّة معطوفة على الجملة الأولى، إشعاراً بأن مصير أصحاب هذه الملل متوقّف على دخولهم في الإسلام، ولن يُقبل منهم البقاء على ما كانوا عليه من مللهم. وعلى هذا يكون معنى " مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً " مَن دخل في الإسلام واعتقد ما جاء في كتابه، وذلك لأن أهل هذه الملل خرجوا عن جادة التوحيد بما اخترعوا من التثليث، وبما حرّفوا وبدّلوا من عقائدهم المنزلة، ولا يمكنهم الاهتداء إلى الدين الحقّ إلا بالدخول في الإسلام.
ومن أجل أن تكون الملل الثلاث في جملة مستقلة معطوفة على جملة " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا "، جاءت كلمة " الصَّابِؤُونَ " بالرفع، وجعلت بين " َالَّذِينَ هَادُواْ " وبين " َالنَّصَارَى " لتبيّن أن " الصَّابِؤُونَ " معطوفة على " َالَّذِينَ هَادُواْ "، وأن محل " َالَّذِينَ هَادُواْ " الرفع باعتبارها مبتدأ، وأنها ليست معطوفة على " الَّذِينَ آمَنُوا "، وذلك لأن " َالَّذِينَ هَادُواْ " تلزم حالة واحدة في الرفع والنصب، ومثلها " َالنَّصَارَى ". ولهذا حسُن تقديم " الصَّابِؤُونَ " وجُعلت بين اليهود والنصارى لتحقّق هذه الغاية التي تترتّب عليها تلك الحكمة الكبرى.
والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.
ـ[الضاد1]ــــــــ[20 - 10 - 2005, 01:25 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله
بورك فيكما اخواي العزيزان، الصحيح أنكما قد وضحتما الصورة بشكلها الصحيح فقد كانت هذه الآية في سورة المائدة تحيرني كثيراً.
" إن الذين اّمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى (المائدة69).
ومن ثم ذكر الملل الثلاث في جملة مستقلّة معطوفة على الجملة الأولى،
أخي الكريم لؤي: هذا الإقتباس أعلاه من مداخلتك؛ هل تعني معطوفة على خبر جملة:"الذين آمنوا" المحذوف والمستدل عليه في مضمون الجملة؟ إذ إن الذين آمنوا تكون في محل نصب.
أرجو التوضيح
جزاكم الله خيراً
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[20 - 10 - 2005, 03:01 ص]ـ
الأخ الحبيب عمار ..
يقول الراغب الأصفهاني: إن قيل ما وجه قوله: "والصابئون"، وقد ذكر النحويون أن المعطوف على "إنَّ" قبل الخبر لا يصحّ فيه الرفع؟ قيل: إن ذلك لا يصحّ فيه الرفع على موضع "إنَّ" والخبر عنهما خبر واحد، نحو أن يقول: "إنَّ زيداً وعمرو منطلقان". فأما إذا جُعل الثاني مرتفعاً بالابتداء، ويجعل الخبر أحدهما مضمراً يصحّ، كقول الشاعر: "فإنّي وقياربها لغريب".
وتقدير الكلام: إن الذين آمنوا لا خوف عليهم، والذين هادوا والصابئون والنصارى مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم، واستغنى بخبر أحدهما عن خبر الآخر. وعلى هذا قول الشاعر:
وإلا فاعلموا أنّا وأنتم --- بغاةٌ ما بقينا في شِقاق. وهذا القول رجّحه الجمل في حاشيته على الجلالين.
وبناءً على ما تقدّم يكون المراد بالآية: إن الذين آمنوا - وهم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم - لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين آمنوا من اليهود والصابئين والنصارى، أي: دخلوا في الإسلام وعملوا بشرائعه، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ففي الآية إغراء لأهل الطوائف الثلاث بالدخول في الإسلام والإستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بشريعته، وإشعار لهم بأن ما هم عليه من دين وشريعة لم يعد مقبولاً بعد أن جاء الإسلام.
والله أعلم
¥