أما لماذا لم يستطيع العرب أو غيرهم أو منجاءوا بعدهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن؟
فالجواب بسيط وهو ان قائل هذا الكلام هو الله، والتحدي مطروح ومستمر، والقرآن هو من جنس كلام العرب وفنونهم، ومما يتداولونه كما البضاعة أخذاً وإعطاءً، ولكن ثبت عجز العرب. ومن الملاحظ عَجْزُ العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وعَجْزُ الناس جميعاً عن أن يأتوا بمثله، إنما لأمر ذاتي في القرآن نفسه. فإن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن أقبلوا عليه مأخوذين بسحر بلاغته، حتى أن الوليد بن المعيرة ليقول للناس وقد سمع النبي:= يقرأ القرآن ((والله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني ولا أعلم برجزه وقصيده مني. والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمورقٌ أعلاه مغدقٌ أسفله، وإنه ليعلوا ولا يُعلى عليه)). مع أن الوليد هذا لم يؤمن وأصرَّ على كفره. فالإعجاز آت ٍ من ذات القرآن، لأن الذين سمعوه والذين يسمعونه إلى يوم القيامة يُشدهون ويتحيرون من قوة تأثيره وقوة بلاغته، بمجرد سماعهم له ولو جملة واحدة.
قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} غافر (16). وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الزمر (67). وقوله {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الأنفال (58). وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} الحج (2). وهكذا تُتلى آية من القرآن أو آيات، فإن ألفاظها وأسلوبها ومراميها تستغرق أحاسيس الإنسان وتستولي عليه.
وإعجاز القرآن أظهر ما يظهر في فصاحته وبلاغته وارتفاعه إلى درجة مدهشة. ويتجلى ذلك في اسلوب القرآن المعجز، فإن ما في اسلوبه من:
الوضوح
والقوة
والجمال
ما يعجز البشر عن أن يصلوا إليه.
والأسلوب: هو معاني مرتبة في ألفاظ منسقة. أو هو كيفية التعبير لتصوير المعاني بالعبارات اللغوية.
ووضوح الأسلوب يكون ببروز المعاني المراد اداؤها في التعبير الذي أُديت به قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فصلت (26).
وقوة الأسلوب تكون باختيار الألفاظ التي تؤدي المعنى بما يتلائم مع المعنى. فالمعنى الرقيق يؤدى باللفظ الرقيق، قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} الإنسان (18). والمعنى الجزل يؤدى باللفظ الجزل، قال تعالى: {وإِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} النبأ (23). والمعنى المستنكر يؤدى باللفظ المستنكر، قال تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} النجم (22). وقال تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} لقمان (19).
أما جمال الأسلوب فيكون باختيار أصفى العبارات وأليقها بالمعنى الذي أدته، وبالألفاظ والمعاني التي معها في الجملة والجمل، قال تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الحجر (3).
والمتتبع للقرآن الكريم يجد الإرتفاع الشامخ الذي يتصف به اسلوبه وضوحاً وقوة وجمالاً. اسمع هذا الوضوح والقوة والجمال قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} الحج (9). وقال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} الحج. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} الحج.
أقول قولي هذا واستغفر الله العلي العظيم.
:; allh
¥