جاء في تفسير ابن كثير: "ويقول المنافقون للذين آمنوا "انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال "يخادعون الله وهو خادعهم" فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب" [5]
2 ـ وقال (قيل ارجعوا) ولم يذكر أن المؤمنين ردوا عليهم، فبنى الفعل لمجهول، وقيل إن القائل هم الملائكة، فهم الذين تولوا الرد عليهم، أما المؤمنون فلا يعنيهم هذا الطلب وإنما هم مشغولون بما هو أهم، وهذا إهانة للمنافقين أن يطلبوا من المؤمنين فلا يجيبوهم وإنما يجيبهم آخرون.
3 ـ وقال (ارجعوا) وهو إهانة أخرى.
4 ـ وقال (وراؤكم) وهو إما أن يكون ظرفا مؤكدا أو يكون اسم فعل بمعنى (ارجعوا) فيكون كأنه قيل لهم: ارجعوا ارجعوا، وهو إهانة ظاهرة.
5 ـ قال (فالتمسوا نورا) وهم يعلمون أن ليس ثمة نور، وهو من باب الاستهزاء بهم.
6 ـ وقال (فضرب بينهم بسور له باب) فحجزوهم عن اللحاق بالمؤمنين وهو إهانة ظاهرة.
7 ـ وقال (وظاهره من قبله العذاب) وهي جهتهم.
8 ـ وقال (ينادونهم ألم نكن معكم) فذكر أنه يرفعون أصواتهم من وراء السور ينادون المؤمنين ليلتحقوا بهم، ولكن حيل بينهم وبين ما يريدون.
9 ـ وفي رد المؤمنين عليهم إهانات متعددة، فقولهم لهم: إنكم فتنتم أنفسكم، وتربصتم، وارتبتم، وغرتكم الأماني، وغركم بالله الغرور، كل خصلة منهن إهانة وتبكيت.
10 ـ قوله تعالى: "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا"و "مأواكم النار" "هي مولاكم" "وبئس المصير" كله إهانات وإخبار لهم بما سيلاقونه من سوء العاقبة والمنقلب، نعوذ بالله.
" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
... "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ"
(يأني) مضارع (أنى) ومعنى (أنى) حان ونضج، و (ألم يأن للذين آمنوا) معناه ألم يحن لهم ذلك؟
"أن تخشع قلوبهم"
أسند الخشوع إلى القلب، والخشوع أمر مشترك بين القلب والجوارح، فهو يسند إلى الأبصار وإلى الوجوه وإلى الأصوات فيقال: بصر خاشع ووجه خاشع وصوت خاشع، كما يسند إلى الشخص كله فيقال: رجل خاشع، أي خاضع، كما قال تعالى: "وكانوا لنا خاشعين90" الأنبياء، وقال "وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل45" الشورى.
والخشوع هو الخضوع والخشية والذل، فخشوع القلب خضوعه وخشيته ووجله وتذلله، فطلب من المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، وذكر الله عام، وما نزل من الحق هو القرآن، وكل منهما مدعاة إلى الخشوع والخشية.
فذكر الله مدعاة إلى الخشوع والخشية كما قال تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم2" الأنفال، وقال: "وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" الحج.
والقرآن مدعاة إلى الخشية والوجل كما قال تعالى: "إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" الإسراء، وقال: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله" الحشر، وقال "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" الزمر.
والقرآن ذكر وقد سماه الله ذكرا، فقد حكى عن الكفار قولهم: "أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري10" الطلاق، وقال: "وهذ ذكر مبارك أنزلناه" الأنبياء.
فإذا كان علماء أهل الكتاب يزيدهم القرآن خشوعا، وإذا كان الجبل يتصدع منه خاشعا لله فكيف لا يخشع قلب المؤمن له؟
لقد ذكر ثلاثة أمور كل منها يستدعي الخشية:
1 ـ كون المخاطبين مؤمنين وهذا يستدعي الخشية.
2 ـ ذكر الله وهو مدعاة إلى الخشية.
3 ـ ما نزل من الحق أي القرآن وهو مدعاة إلى الخشية.
¥